2‏/8‏/2015

“Blackhat”: جاذبية الهروب إلى عالم جديد


ملحوظة: هذا المقال يحتوي على معلومات قد تفسد مشاهدة الفيلم (Spoilers)

الأكشن في عالم جديد شجاع
الإختراق أو القرصنة (Hacking) ليس موضوعا مهما لدى خبراء أمن المعلومات والمخترقين فقط ولكنه أيضا يشكّل صيدا لمنتجي الأفلام. العديد من الأفلام (وخصوصا الهوليودية) تناولت عمليات الاختراق والتجسس الإلكتروني ولكن أيا منها لم يكن بطموح وجماليات الفيلم الأخير للمخرج الأمريكي الكبير مايكل مان والذي يحمل إسم "Blackhat".
يبدو"بلاك هات" متوافقا تماما مع اللحظة التاريخية التي نحياها، خصوصا وأنه يدور داخل عالم الجريمة الإلكترونية وبالتحديد الإرهاب الإلكتروني. وهو ما يتناسب مع الاعتداءات الأخيرة على شركة سوني وتصدُّر النتائج الفعلية لجرائم الإنترنت عناوين الأخبار خلال الأشهر الماضية. يتبع الفيلم نيك هاثواي (كريس هيمسورث/ Chris Hemsworth قرصان كمبيوتر أدين بارتكاب العديد من الجرائم الإلكترونية وحوكم بالسجن لمدة 15 عاما، يُسمح له بالخروج مؤقتا من السجن الفيدرالي للمشاركة في تحقيق بشأن سلسلة من الهجمات عبر الإنترنت. بعد اختراق محطة نووية صينية موجودة في هونج كونج وعملية تبادل سلع في شيكاغو؛ تقترح عميلة من مكتب التحقيقات الفيدرالي (فيولا ديفيس Viola Davis/) العمل مع الصين للعثور على المجرمين الإلكترونيين. يتم تشكيل فريق عمل من الصينيين والأمريكيين (!) لانقاذ العالم من مخطط إرهابي لنشر الفوضي دون سبب واضح، وتبدأ مطاردة تلك الشبكة الارهابية من شيكاغو مرورا بلوس أنجلوس، ثم هونج كونج، وصولا إلى جاكرتا.
المشرف على التحقيق من الجانب الأمريكي هي فيولا ومن الجانب الصيني هناك الضابط تشين داوي (ليهون وانغ/ Leehom Wang) الذي كان زميلا سابقا لهاثواي في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT). بعد ضمّ هاثاوي إلى هذا الفريق، يقع في حب أخت صديقه، تشين لين (تانج وي/ Tang Wei) وهي مهندسة إلكترونية، فيما يعملون جميعا على تحديد الدوافع والأدلة التي تقودهم إلى شرير غامض يُدعى ساداك (يوريك فان واجنينجن).
قصة بسيطة ولكن تنفيذها على الشاشة تطلّب الكثير من العمل والبحث والشغف. قبل البدء بتصوير الفيلم كان مان قد أعجب بفيروس "ستاكسنت" وهو برنامج سري بالغ التعقيد ينشر الفوضى في أنظمة الكمبيوتر وكل ماهو مرتبط بها من آلات وأدوات مراقبة وضبط. يقول مان أن ذلك الفيروس "فتح عينه" على حقيقة أننا لا نعيش الحياة التي نظن أننا نحياها. وفي رحلة الاعداد للفيلم أجرى مان أبحاثا معمّقة حول الموضوع وقابل الكثيرين: مهندسو رقاقات الكمبيوتر، قراصنة تحولوا إلى خبراء أمنيين، خبراء متخصصون في مواجهة الخروقات الإلكترونية، ، عمال في قطاع الفولاذ، ومساجين في سجون خاضعة لحراسة مشددة.


  عبور الحدود

بعد نصف ساعة من بداية الفيلم تقوم تشين لين باخبار هاثواي، القرصان الالكتروني الذي ستقع في حبه، عن الاضطرار "لاتخاذ اختيارات بدهية" في "أكثر التيارات وعورة لاتخاذ القرار […]لا وقت انتقالي". إنها تصف بوضوح الحال التي وجد هاثاواي نفسه عليها، ولكنها قد تكون تصف حالة مُشاهد الفيلم كذلك.
نيك هاثواي شخصية يسمّيها مايكل مان "قرصان سوبر" (a superhacker)، شخص يمكنه بسلاسة العبور بين العالم الرقمي والعالم الحقيقي". بطل خارق (superhero) ذكي بما يكفي لاختراق الحسابات البنكية باستخدام هاتف نقّال، وقوي بما يمكّنه من التغلب على خمسة رجال يهاجمونه في نفس الوقت. يستطيع التأقلم مع أي وضع، إذا زجّ به في زنزانة فإنه يبدأ على الفور في التحايل على الوضع وخلق الفرص. هو أيضا مُثقّف ولديه من المعرفة ما يمكّنه من قراءة كتب فلاسفة ما بعد حداثيين مثل بوديار ودريدا وفوكو وليوتار، يتحدثون عن "تسليع الحياة اليومية" أو "التقنيات التاديبية للسلطة بما فيها المراقبة".
هل هاثواي إنسان كامل؟ ليس تماما، فهو يمتلك نقاط ضعف، وحتى أن البعض سيعتبره بطل ضد (anti-hero). في أحد المشاهد تخبره تشين لين أن يفتح عينيه حين تسيطر عليه نرجسيته في  تصريح عنتري مثل "لقد قمت بالجريمة. أقضي الوقت وليس الوقت ما يقضيني." يبدو وقعه على الأذن لطيفا ولكنه شكل آخر من أشكال السجن. "أنت تتحدث كما لو كنت ما زلت بالسجن. ولكنك لست في السجن". تقول تشين لين.
 "تحدس تشين أن هناك شيئا من رهاب الأماكن المفتوحة (agoraphobia) عند هاثواي من الفضاء المفتوح في المطار" يقول مان في حوار، "يزعجه ذلك. فهو ضائع وبدون بوصلة... لقد تمّ رسم صورته بدرجة أعظم مما يدركها. تشين لديها شعور حدسي تجاهه. هذا واحد من الاتصالات الغير محددة التي لدينا في الحياة."
 وما هو أول شيء يراه هاثواي حين يفتح عينيه؟
 كاميرا المراقبة التي تشاهدهم، أو كما يسمّيها مان "هيكل خارجي" (exoskeleton).
 "الأمر تقريبا كأن هناك نوعا من الهياكل الخارجية غير المرئية فوق الطبقة التي نعتقد أن حيواتنا تحدث فيها على كوكب الأرض، والتي يكون ]الهيكل[ بناؤه من الترابطية ((interconnectedness والبيانات ]...[ نحن نسبح في ذلك، وكل شيء يمكن اختراقه واتاحته والوصول إليه." يقول مان. الهيكل الخارجي غير مرئي وغير ملموس/مادي ولكي تصنع فيلما يتحدث عن ماهيّته وفقا لمايكل مان، فذلك "مثل سمكة تتحدث عن الماء الذي تسبح فيه". كذلك يقول مان أنه يفهم "ميكانيزمات الاختراق المتمثّلة في القدرة على التعامل مع شيء مجرّد مثل الأكواد لاحداث تأثير حركي (kinetic effect) في العالم الواقعي الفيزيائي. هناك وجه مخيف ودراماتيكي ومثالي في نظري في محاكاة انتقال الأشياء لتحقيق هدف ما. من المثير جدا الاطلاع على شفرة ما وما تحققه وكيفية تحطيمها الدفاعات".


المخترقون أبدًا لا يعالجون تلك الأصفار والآحاد (في النظام الرقمي للعدّ هناك رقمين فقط : صفر وواحد) بأنفسهم، بل يستخدمون شيئًا ماديًا مثل لوحة المفاتيح لكتابة رمز غير مادي، مجرّد، للتعامل مع تجريدات أخرى من خلال تيارات كهربية مادية. المخرج السينمائي أيضًا يتعامل مع أشياء مادية/ملموسة وأخري غير مادية/ملموسة: قصة/فكرة غير مادية يتم تصويرها بكاميرات رقمية (مادية) ولكنها تتعامل من خلال الأصفار والآحاد. وكما المخترق، يتمنّى المخرج إحداث تأثير حركي ومادي على الجمهور من خلال تداعيات غير مادية. شيء يذكّرنا بجيمس جويس/ James Joyce في "صورة للفنان في شبابه" حين يقول " الصوت والشكل واللون هي بوابات سجن أرواحنا."
يتشابك الملموس والغير ملموس في الفيلم حتى يكاد ينمحى الحدّ الفاصل بينهما. الاتصالات البشرية لا يمكن تحديدها كمّيًا (unquantifiable) وبالتالي غير ملموسة (intangible)، ولكنها واحدة من أكثر الأشياء الملموسة التي نمتلكها في الحياة وسط تدفق رقمي لا ينتهي. جماليات"بلاك هات" تقدّم شعورًا مشابهًا وأشكال ومساحات ملموسة يجري اعدادها بطريقة تجعلها تبدو كما لو كانت تتلاشى في الهواء. ايقاع الفيلم ساحق لدرجة أن اللحظات المتفرّدة، الصوّر، الشخصيات كلّها تفقد أهميتها، وما يبقى هو شعور شجاع بالضعف من دون أرض ثابتة يمكن الوقوف عليها. ليس صدفة أن الاسم المستعار لهاثواي في الفيلم هو "رجل شبح" (ghostman)، ذلك يصف رغبته -غير القابلة للتحقّق- في أن يصبح وجودًا لا ماديًا غير قابل للمراقبة. نستطيع أيضًا أن نسمّي الفيلم نفسه شبحا، شبحا ملموسا.
واحدة من الدلائل على كيفية تحقيق مان لذلك الاحساس اللا مادي (immaterial) يمكن ايجاده في لقطات المايكنج: يصوّر مان مشاهد عديدة بثلاث كاميرات وربما أكثر. هناك فرصة قليلة للاعتقاد بأنه يعتني بتكوين الكادر لكلّ كاميرا منهم. الأرجح، أنه اعتقد في امكانية تحقيق نوع مختلف من الجماليات بصورة "تميل للشحوب والوعورة " من خلال استخدام تلك اللقطات والصور "الخام". نعلم أيضا من أحد الحوارات مع مدير إنتاج الفيلم استخدامه 5 كاميرات مختلفة بحسّاسات وترميزات وحتى معدلات إطار مختلفة.
دليل آخر يكمن في "مزج الصوت غير المكتمل" واستياء هاري جورج ويليامز، واحد من 4 موسيقيين ألّفوا موسيقى الفيلم، من أن عمله لم يستخدم بشكل كاف. يقول مان "عملت مع عدد مختلف من الموسيقيين في هذا الفيلم لأنني أردت أشياء مختلفة من أناس مختلفين. لقد كان الأمر أشبه باختيار الممثلين للأدوار. الفيلم مغامرة سردية والقصة تتغيّر جذريا 3 مرّات، لذا هناك حالات شعورية مختلفة جدا وذلك يتطلّب تغييرًا في الموسيقى. لذا أتيكوس روس صنع شيئا، وهاري ويليامز صنع شيئا آخر، ريان آمون صنع شيئا آخر بدوره ثم هناك مايك دين الذي صنع شيئا آخر." الاحساس بكل ذلك الميلودي المتغيّر بتغيّر المواقف سيكون محبطا للكثيرين وغريب نوعا ما، ولكن في الأثناء فإنه جميل وفعّال في نقل ما يريده المخرج لتجربة المشاهدة بشكل ملموس.
على الجانب الآخر، واحد من مضادّات ذلك الشعور باللا مادية هو دموية وفيزيائية الفيلم: في الأخير نحن نتحدث عن فيلم أكشن وكل شيء يدخل الأجساد، سواء كان ذلك رصاصة أو مفكّ، يتم التركيز عليه.
 كاميرا مان تبقى على مقربة من ترانج بينما يموت، لذا بركة الدماء تأخذ حيزا معتبرا من الشاشة. في النهاية هاثواي يطعن ساداك (زعيم الإرهابيين) حوالي 12 مرة في صدره في تتابع هستيري. وبغض النظر عن المدى الذي يمكن أن يحملنا إليه خيالنا وتجريداتنا، فنحن لا يمكننا ترك ذلك الشيء الملموس والهشّ الذي نسميه الجسد. كما قال ويليام بتلر يتس"الروح تصفّق بيديها وتغنّي، ويعلو الغناء/ لكل خرقة في لباسها الفاني". وما أكثر الفانين في "بلاك هات"! كل واحد نعرفه عن قرب (باستثناء اثنين) تم قتلهم قبل نهاية الفيلم ولم تكن أية واحدة من تلك الميتات سهلة على الإطلاق.
في مشهد موت فيولا مثلا. ننظر في عينيها عن كثب ثم يتم القطع على ناطحة سحاب نفترض أنها تنظر إليها/تبحث عنها.  ناطحة السحاب تبدو كالقبر، والذي بدوره ليس سوى شيء يجعل الملموس غير ملموسا. القبر هنا يكتسي شيئا من الروحية والسريالية، يصبح طوطميا تقريبا. ولكنه يذكّرنا بالبناية التي قُضي فيها زوجها (11 سبتمبر) والتي تكلمت عنها فيولا قبل دقائق في محادثتها مع العميل جيسوب، آخراتصال إنساني ملموس سيحظى به كلاهما.

بحثا عن إنسانية مفقودة
في الفيلم، هناك تركيز خاص على التفاعلات بين الناس قبل الموت غير المتوقع وغير المرحب به. ولعل المثال الأبرز هو تلويحة تشين لين الأخيرة لأخيها تشين داوي علامة على المصالحة التي أتت في الوقت المناسب تماما، قبل ثوانٍ من انفجار سيارته وهو بداخلها. أو مأساوية اللقطة المقرّبة لمفاتيح السيارة التي تلقيها تشين لاين لأخيها في مشهد سابق.
واحد من مشاهدي المفضلة في الفيلم هو أحد تفاعلات ما قبل الموت هذه. في إحدى الحدائق بهونج كونج، يتناول هاثواي هاتف الضابط الصيني ترانج ويضبط أداة البلوتوث ليقوم بعمل ما. حين ينتهي،  يعيد الهاتف بالقاؤه في الهواء من مسافة بضعة امتار إلى ترانج الذي يلتقطه. منذ تلك اللحظة الكاشفة، نستطيع الاستنتاج بأن هاثواي يعلم عن ترانج ما يجعله واثقا فيه من ناحية، وأنه يستطيع التقاط الهاتف من ناحية أخرى. لا نعلم ما الذي تشاركاه في المدة القصيرة التي قضاها هاثواي في هونج كونج ولكن يبدو أنها كانت كافية. هذا الاتصال الانساني هو ما يجعل هاثواي غاضبا جدا حين يُقتل ترانج. هناك حاجة مُلحّة لتلك التجارب المشتركة في الفيلم، لأن الموت دائما في الجوار.
 تماما كما هو حال الخط الفاصل بين بين مادية ولا مادية الفيلم، فإنه ينبني على العديد من الثنائيات المموّهة. يتحدّث الناقد الأمريكي بيلج إيبيري عن "الرقص" بين الواقعية المفرطة والتجريدية المفرطة (hyperrealism and hyperabstraction). وتكتب مانولا دارجيس مقالا بليغا في "نيويورك تايمز" تدافع فيه عن الفيلم مشيرة إلى "تذبذب مان بين الأكشن والتأمل، التحوّل والجمود، العوالم الداخلية والخارجية" وتذكر أن الفيلم "بتنقّله بين الوحشية والسنتمنتالية، الجمال والرهبة، يصبح خطيرا كقبر وباعثا على المتعة بطريقة غير مفهومة".

يمكن أن نتحدث بالتفصيل عن كل ذلك ولكن ربما يكون الأهم هو توضيح مدى ضبابية الخط الفاصل بين الخير والشرّ. فبينما يهتمّ هاثواي وتشين بأحبّتهم ويتعاطفا مع الناس/الحيوانات التي ستغرق قراهم، فإن ساداك يعلن ببرود بعد مقتل حليفه المقرّب على كسّار: "كثير من الناس يموتون على هذا الكوكب كلّ يوم. ماذا تريدني أن أفعل؟ أحزن؟ لأنني أعرفه؟ هو لم يعد هنا. أين أموالي؟"
  ولكن من الصحيح أيضا أن أفضل شخص يصف هاثواي ليس سوى خصمه حين يقول: "أحيانا أستيقظ في الصباح ولا أعرف من أنا، أو أين أنا، في أي بلد". كل واحد منهما مرآة الآخر وهو الأمر الذي يلمّح إليه عنوان الفيلم: من منهما هو الـ"بلاك هات" المحدد؟
في أية حال، كلاهما يتصرّف بحسّ بدائي.  فليس من قبيل المصادفة أن يكتشف هاثواي دافع ساداك لاغراق مناجم قصدير فور وفاة صديقه تشين داواي. عند تلك النقطة هو يحارب ضد الشرّ (أو اللا مبالاة إذا أردت) ويخطط للانتقام لمقتل صديقه، وفيولا وجيسوب وترانج.. إلخ الذين أصبحوا قبيلته (قبيلة دولية ولكنها تظل قبيلة). هذا يبيّن جزئيا سبب عدم اهتمامه ما إذا كانت المعركة الأخيرة ستحدث وسط احتفال ديني، حيث العابرين الأبرياء يمكن أن يودى بهم. هاثواي في مشيه ضد تيار المؤمنين يصبح كيانا مدفوعا برغبة بدائية وأصيلة (؟). لا يهدف إلى تسليم ساداك إلى العدالة والتي تصبح كلمة لا معنى لها في حالته، بل قتله والأخذ بالثأر. وذلك مثال واضح على التباين بين رغبته والطقوس الروحية لطرد الأرواح الشريرة التي يؤديها الناس من حوله كطريقة لطلب المغفرة والحفاظ على نظام الكون.

في الحقيقة أن نفس الدافع البدائي موجود منذ بداية الفيلم.
ما القرصنة سوى التسلّل إلى الفضاء السيبري لشخص آخر؟
 هل هذا هو السبب الذي جعل مان يشعر بالحاجة ليرينا التسلّل المادّي للتيّارات الكهربية والإشارات الإلكترونية من خلال تسلسل بصري منفّذ بذكاء بواسطة الكمبيوتر؟
 هل في عصر تحيط بنا "هياكل خارجية" تكنولوجية، تبقى فضاءاتنا الذاتية نفسها؟
هل هذا هو السبب وراء عدم شعور فيولا بالحاجة لاتباع القانون والنظام، فقط لأنها فقدت زوجها في 11 سبتمبر؟
ليس لأن مان معجب كبير بالقانون والنظام نفسه. هو قالها: "معظمنا يعيش حياته في كنف النظام القضائي الذي ولد فيه، الاقتصاد السياسي الذي ولد فيه. المجرم، بالتعريف الذاتي، هو خارج عن الأعراف والقيم المجتمعية." إذا هاثاواي وتشين لين بعد أن تخفّفا من جميع السلطات (القضائية والسياسية والشرطية)، امتلكا حريتهما بطريقة جديدة.
في أحد مشاهد النصف الأول من الفيلم، يخرج هاثواي من السجن وينظر إلى مساحة خالية من المطار. ربما يكون مان على حقّ في قوله أنه مصاب برهاب الأماكن المفتوحة، ولكن هناك إمكانية هروب أيضا، على صغرها. الكاميرا من ناحيتها تبقى فترة لتمنحنا الفرصة للسؤال: ماذا لو؟. ولكن يبدو ذلك مستحيلا، يخبره العملاء الفيدراليين أنه كي يتحرر من جهاز التتبع عليه أن يتبخّر في الهواء أولا. تخيُّلنا لهروب هاثواي المحتمل يصبح جزءا من تجربة الفيلم، وإحساس/فكرة الحرية التي تأتي معه يتم التعبير عنها بفضاء واسع مفتوح سيلازم المُشاهد طيلة الزمن الباقي من الفيلم. ربما ذلك هو السبب في أن لقطات السماء في أفلام مان تأتي قوية ودسمة.
قرب نهاية الفيلم بعد موت كل أصدقائهم، يقوم هاثواي بفصل جهاز التتبع والقاؤه على متن سفينة. تعود الكاميرا إلى مشهد موت فيولا وجيسوب حيث تنزل إلى الأرض بدون سبب واضح، ثم نكتشف هاتف جيسوب مع تطبيق المراقبة المفتوح الذي لا يزال يتبع حركة هاثواي. نرى نقطة خضراء (والتي من المفترض انها تشير إلى هاثواي) تبحر في المحيط. الصورة الشاعرية لهاثواي وتشين لين مبحرين في المحيط  تطفو في المخيلة رغم علمنا بأن ذلك ليس صحيحا.

هذا ليس فيلم أكشن فاشل ولكن تجريبي بميزانية كبيرة
ربما يجادل البعض بوجود ثغرات في حبكة الفيلم وقصته، وذلك مفهوم تماما في فيلم أكشن تجريبي بميزانية 80 مليون دولار. ما يهمّ في الأفلام الطليعية (avant-garde films) هو البناء وليس القصة. اشتهر مان باهتمامه بالأصالة وحبّه للتجريب ونتيجة هذا تؤدي هنا إلى شعور مزمن باللا مكانية، ليس فقط في التحولات الفجائية للموقع (موقع التصوير أو موقع الأحداث في الفيلم) ولكن في اللقطات المقربة بشكل مفرط. قبل 10 سنوات، حين بدأ مان العمل مع الديجيتال مستخدما كاميرات أقل وزنا ومتمتعا بالقدرة على التصوير بمستويات إضاءة منخفضة في "The Collateral" قال أنه "بالنسبة لي الفيديو الرقمي يقترن بالرسم التصويري الواقعي (photorealist painting)" ]هنا تجبّ الإشارة إلى أن زوجة مان رسّامة.[ يتضمن ذلك التصريح الفكرة القائلة بأن الفيديو وسيط مختلف كلّية عن الشريط السينمائي (celluloid)، ولذا كان لابد من إبتكار لغة بصرية جديدة. في " Miami Vice" و" Public Enemies" والآن في " Blackhat"، يبدو مان باحثا عن القصص والشخصيات التي يمكن أن تتلائم فقط مع تلك اللغة، ينظم السرد في كتل ممكنة من المشاعر ويعرض الناس كعقد (nodes) في شبكات المعلومات.
يبدأ "بلاك هات" بمنظر واسع لكوكب الأرض من الفضاء ثم تذهب الكاميرا إلى داخل رقاقة إلكترونية دقيقة ويتبع ذلك "رحلة مذهلة عبر العالم المجهري للإشارات الإلكترونية التي تنتقل عبر الشبكة، مجتازة الكوكب كما لو أنها موجات غازية من المعلومات". ينتظر المُشاهد حتى المشهد الثاني أو الثالث كي يسمع أول جملة حوارية. ثم عليه أن ينتظر فترة أطول قبل أن يقابل أيا من شخصيات الفيلم الرئيسية. البشر، على الأقل كما ننظر لهم عادة في الأفلام الروائية، لا يأتون بذلك الترتيب وهو الأمر الذي يمهّد لبقية الفيلم.
يقترح الفيلم أنه في عالم نظم المعلومات، فإن الشواغل الأساسية إما أكبر بكثير أو أصغير بكثير من البشر. في الحقيقة يبدو أن هذا العالم لا يحتاجهم من الأساس. يمكننا التذكير بفيلم " L'Eclisse" للإيطالي مايكل أنجلو أنطونيوني/  Michelangelo Antonioniإحدى كلاسيكيات السرد السينمائي التجريبي، حيث ينتهي الفيلم بمتتالية تمتد لـ 7 دقائق تعيد النظر في مواقع الفيلم الرئيسية ولكن تعرض أغلبها خالية من البشر، كناية عن انتفاء الإحساس الإنساني في الحياة الحديثة، أيضا حين يمرّ "بلاك هات" سريعا على "هيئة شيكاغو للتجارة" وقاعة التداول التي يعرضها ككائن واحد يشبه إلى حد كبير عرض أنطونيوني لأرضية بورصة روما.
في أفلام مان الأخيرة، غياب ذلك الشعور ليس شيئا يستدعي النحيب، ولكنه ببساطة يوضّح عصرنا، عصر الوفرة التكنولوجية. في " Public Enemies" يذهب إلى الثلاثينيات ويقوم باسقاط الوضع الحالي على تلك الفترة وكأنه يقول أن الماضي حتى ليس في مأمن من مطالب الحاضر. هذا لا يعني أن مان يقبل الأمور على ما هي عليه، فمزيجه الصوتي والبصري يقدّم سعيا لاستخدام التكنولوجيا اللا انسانية كأدوات لانجاز فنّ تجريدي.
الجمال فكرة شخصية، خصوصا حين يتعلّق الأمر بأشكال مجرّدة. وتلك هي الثيمة الأساسية لأغلب فن الفيديو التجريبي وأعتقد أنها أيضا ثيمة "بلاك هات". لماذا يواصل مايكل مان إخراج وإنتاج أفلام أكشن بميزانيات كبيرة إذا كانت إهتماماته غامضة جدا؟ أعتقد أن إجابة ذلك السؤال تكمن في أن النوع الفني نفسه يعطيه الكثير ليعمل ضدّه.



الفيلم: Blackhat
إخراج: Michael Mann
إنتاج: 2015

نُشر في موقع التقرير 1, 2

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق