2‏/8‏/2015

مونوكروم الألفية الجديدة (3): ثلاثة أفلام أوروبية

 
The White Ribbon (2009)

"أعتقد أنه يجب عليّ قول الأحداث الغريبة التي حدثت في قريتنا" يخبرنا الصوت في بداية الفيلم، ثم يضيف: "ربما (الأحداث الغريبة) توضّح بعض الأشياء التي حدثت في هذا البلد." رحلة هانيكي للتوضيح مختلفة كثيرا ولكن هناك شيئ مزعج وصادم في محاولة الفهم السينمائية تلك المصوّرة بطبقة رائعة من الأبيض والأسود. إنه العام 1913، طبيب في قرية صغيرة يكسر عظمة ترقوته حين يتعثّر حصانه بسلك مخفي في الأرض. الشرطة تقوم بتحقيق وباقي القرية تثرثر وتخمّن. ما من جاني واضح وسلسلة من الأحداث المروّعة تبدأ في التراكم بعضها على بعض. يستمرّ الفيلم في تحويل بؤرة تركيزه بين مجموعات متنوعة من الشخصيات: الطبيب وعشيقته والأطفال، البارون وأسرته، القسّ وعشيرته الخائفة، وأحيانا صوت الراوي، مدرس القرية، الذي يبدّل أحداث الفيلم من وجهة نظر مستقبلية.
النساء - والفتيات - في عالم الفيلم يتحدد وجودهن في المقام الأول من خلال نظرة وإرادة الرجال. وبالنسبة لأطفال فالحياة كئيبة، ولكن يبدو أن هناك مزيدا من كآبتها مخصص للفتيات. هناك صدمة عميقة في فيلم هانيكي، ومجتمع بروتستاني قائم على هيراركية قمعية تجعل العجائز الاسكتلنديين في فيلم " Breaking the Waves, 1996" للارس فون ترير أشبه بمهرجين. في مركز ذلك القمع يتم تقديم بورتريه للقس (Burghart Klaussner) وعائلته: رجل دين صارم وقاس، يقوم بجلد أبنائه عقابا على أكثر الافعال براءة. والأطفال بدورهم يردّون بوضوح، ولكن لديهم تلك العادة الغريبة في الاختفاء –دائما لأسباب تتعلّق بالأدب السلوكي- عندما تبدأ أكثر الأشياء المقلقة في الحدوث.
وهنا يجب الاشارة إلى أداء الممثلين الصغار الرائع والمذهل، ولعل سبب ذلك يرجع إلى حرص المخرج في اختيارهم، فقد أجرى اختبارات أداء لأكثر من 7000 طفل قبل البدء في التصوير. كما أن الفيلم تضمّن الكثير من الحوارات الفلسفية والتي جاء أقواها بين هؤلاء الصغار مثل ذلك الحوار بين ابن الطبيب وأخته الكبرى عن ماهية الموت وأسبابه.
ميشيل هانيكه سينمائي لا يتساهل في عمله، ومثير للاعجاب في استكشافه للتشويق بطرق وأدوات مختلفة دون اللجوء في أي مناسبة إلى خلق الإثارة thrilling. الثيمة الأساسية في أفلامه هي التأصيل لفكرة العنف والبحث عن أسباب تطرف السلوك الإنساني. في فيلمه "Funny Games, 1997" يقدّم قصة مروّعة عن شابين يقتحمان بيوت الاثرياء ويقومان بـ"ألعاب دموية مرحة" تستدعي رعبا تفشل أغلب أفلام الرعب في ايقاظه. وبينما لا يقدّم هانيكه تمهيدا تأسيسيا لشخصياته ودوافعها إلا أن العنف يفرض نفسه في صدارة الصورة، وكأن المخرج يبصق فكرته الملعونة في وجه المشاهدين ليتفكّروا فيها. تكنيك مشابه يستخدمه هانيكه في فيلمه الفائز بسعفة "كان" الذهبية لعام 2009 ولكن بكثير من الاضمار والتخفي تحت أقنعة القمع السياسي والديني والمجتمعي.


يأخذ هانيكه قطعة صغيرة من فترة ما قبل الحرب العالمية الأولى (قرية بروتستانتية بشمال ألمانيا، عالم داخل عالم) ويظهر بعضا من أسرارها وبالأخص العنف الكامن فيها لنصل في نهاية الفيلم إلى خبر اغتيال ولي عهد النمسا في البوسنة، تلك الشرارة الحقيقية التي فجّرت الحرب العالمية الأولى ويتوقف الفيلم عند تلك اللحظة ليترك مشاهده يقوم بدوره في التساؤل عن غموض يلفّ تاريخ الانسانية في لحظاتها الفاصلة.

The Artist (2012)

عندما أخبرت البعض حول فكرة الفيلم، ضحكوا علي. أصدقاء، ممثلون، منتجون، كلهم ضحكوا عليّ. قالوا لي: حسناً، حسناً، أخبرنا ماذا تريد أن تفعل بالضبط؟ بالنسبة لي، رغبت في صنع فيلم ساحر وخارج عن السياق. لكن، لا أحد كان يعتقد أن فيلماً كهذا سيكون صالحاً للتسويق".  - ميشال هازانافيتش


السبب الرئيسي لتقدير ذلك الفيلم الفائز بحفنة من جوائز الأوسكار، هو جرأته. إذا أخبر أحدهم صديقه من عشر سنين مضت أن ثمة فيلم شبه صامت ومصور بالأبيض والأسود ومستقل (بالمعايير الامريكية) سوف يحصل على أوسكار أفضل فيلم في غضون سنوات قليلة، فأغلب الظنّ أن الضحك الساخر سيكون في انتظاره. ولكن المخرج مايكل هازانافيتش Michel Hazanavicius انتزع القدرة على حكاية هكذا قصة بطريقته الخاصة ويا لها من حفاوة مبالغ فيها تلك التي قوبل بها. فجزء كبير من الاشادة والحفاوة الكبيرة التي استقبل بها الفيلم كان نوستالجيا بامتياز، فهذا فيلم بسيط جدا ومصور بـ"أبيض وأسود" لا يمتّ بصلة لذلك الأبيض والأسود زمن السينما الصامتة. إننا في العام 2012 والصورة فائقة الجودة تعطي ذلك الانطباع الـ"واو" بجماليات المونوكروم، كما أن الفيلم قريب جدا من الجماليات التقليدية للسينما الامريكية وهو ما يفسّر الشيوع الكبير له في أمريكا أكثر منه في فرنسا (بلد الانتاج وموطن أغلب صانعي الفيلم بما فيهم مخرجه وكاتبه).

تدور أحداث الفيلم حوالي سنة 1927، السنة التي ستشهد ظهور أول فيلم سينمائي ناطق، وتعرض قصة جورج فالنتين (Jean Dujardin) الممثل الذي يعتبر من أفضل ممثلي عصره، ويواجه شبح أفول نجوميته. يرفض الفنان أن يمثّل في الأفلام الناطقة ويصرّ على التمسك بعمله في السينما الصامتة، في نفس الوقت الذي تداعب الشهرة والنجومية صديقته الممثلة الشابة بيبي ميللر (Bérénice Bejo) التي بدأت العمل في الأفلام الناطقة.
بطريقة مشابهة في بساطتها لأفلام تلك الفترة، يعرض المخرج مخاوف رؤيته لفن السينما كفعل مبهج، ويمرّ كذلك على أزمة بطله الناجح والخوف الهيستيري من فقدان امتيازات النجاح في عالم جديد ومتغيّر، وكيف يمكن للانسان تدمير نفسه باختياره لقرار ما تتهاوى بعده كل أساسات الأمان الوجودي.
وكي يخفّف هازانافيتش من قسوة قصته التراجيدية يقوم بتطعيهما ببعض العناصر الكوميديا التي يمكن قبولها بقليل من التجاوز (مثلا، الكلب الصغير المرافق لفالنتين)، ولكنه يفشل في الحفاظ على اتزان قصته والانجرار وراء التماهي المجاني مع السينما الصامتة بدون اعتبار للسياق الزمني المختلف، فتأتي النهاية السعيدة بعد أن يوافق فالنتاين على مشاركة ميلر الرقص في فيلمها الجديد، فيستعيد توهج الأيام الخوالي ويعيش في تبات ونبات مع امراته التي تنتشله من براثن الانتحار.
"الفنان" أول فيلم صامت يحصد "الأوسكار" منذ 83 سنة.  أما جان دوجردان فهو أول ممثل فرنسي ينال الأوسكار.

Tabu (2012)
"السينما لعبة" – ميجيل جوميز

يقسّم المخرج البرتغالي ميجيل جوميز/ Miguel Gomes فيلمه إلى قسمين (يسبقهما مدخل مراوغ لحكاية قديمة تعرض في احدى دور السينما في لشبونة المعاصرة) الأول بعنوان "فردوس ضائع" تدور أحداثه في لشبونة في الزمن الحاضر، والثاني بعنوان "فردوس" يستعيد حكايات الشباب في أفريقيا. فكرة التقسيم مفارقة رائعة بالطبع ، فكما يعلم الجميع، ومثلما يضعها مارسيل بروست بشكل مناسب، فإن الفردوس الوحيد هو الفردوس المفقود.

بعد ثلاثة أرباع ساعة من الفيلم لا نشاهد فيها سوى أطلال ماضٍ غامض لامرأة ثمانينية غريبة الأطوار تحمل إسم أورورا تفقد سيطرتها على الأمور بفعل الألزهايمر. تعتني بها خادمتها وجارتها المخلصة بيلار التي تكافح بدورها لمراودة وحدتها بالتزام كاثوليكي ويساري يناسب طبيعتها التي تحاول تخفيف آلام الآخرين وخطاياهم.

 وعندما تبدأ قصة شباب أورورا عند سفح جبل تابو في موزمبيق يصبح واضحا حضور الكاتبة كارين بليكسن/   Karen Blixenوأفريقيتها في تحيّة متخفّية من المخرج والناقد ميجيل جوميز، والذي يوجّه تحيّة أخرى للسينما الصامتة سواء باقتباسه لاسم الفيلم من فيلم مورانو/ F. W. Murnau، أو طريقة تصويره بالأبيض والأسود (إدارة غنية وتملء العين من روي بوساس/ Rui Poças)، واستغنائه عن الحوار. جوميز هنا ربما يستشهد بحكاية استعمارية مبكرة تستعيد روبنسون كروزو أو يختار خادمة من مستعمرات الماضي تعتني بحفيدة المستعمر الخرفة في بلدها الذي أصبح يعاني اقتصاديا ، ولكنه أبدا لا يقلّد أحدا.
 يوغل المخرج في اللعب ويلمس كل ما هو مبتذل بلمسة شعبية ((pop تضيف شيئا من السحر حيث نستمع إلى أغانٍ ستينياتية تضمّن تنويعات صوتية برتغالية، وفي الوقت نفسه يتحدّث عن سخرية وعظمة المشاعر. اللمسة ما بعد الحداثية تمزج الضحكة المكتومة بالرومانسية الشديدة.
فانتازيا سينمائية مُطرّزة باتقان ومزاج يعتني بالصمت. شريط الصوت عبارة عن خليط مدهش من الصمت-الكلام (لايوجد حوار، ولكن صوت) هو المقابل لسحر استعادة حب فاشل دون العودة لشروطه المستحيلة. بدايات الحرب الاستعمارية، والأجواء الداخلية لمجتمع استعماري صغير أشبه بجالية منقرضة، والرغبة الممتدة بين أورورا وعشيقها فينتورا، والأغاني الأفريقية، وأصوات الغابة،، كل شيء يساهم في خلق فيلم رائع يفرض قرابته على فيلم "India Song" لمارجريت دورا ومنفاها وغرابته المدموغة باللاطمانينة. يمتلك الفيلم قوة استثنائية لرفع تلك الحكايات المنسية في روايات المغامرات، الحكايات المحتشدة بالحب والرومانسية والجموح والمفاجآت والحلول الصعبة، رفعها إلى مستوى آخر من المعالجة وتشبيكها –بكثير من الروقان إن جاز التعبير-  في مشروع سينمائي يتجاوز تقليدية الوسيط والروايات الرسمية عن الماضي الاستعماري وتأثيراته في حكاية سردية مبنية على صمت غزير يغذّي سحر الصورة السينمائية.
في أحد الرسائل المكتوبة بلغة أدبية بليغة تقول أورورا لفينتورا بأن ذاكرة العالم أبدية ولا يمكن لأحد الفكاك منها. تموت أورورا وفي المستقبل القريب يلتحق بها فينتورا، بينما التمساح، الذي يفتتح ويختتم الفيلم، يبقى شاهدا صامتا على حكاية الحبّ المحرّم. تمساح حزين و كئيب مع سيدة من زمن مضى. زوج لا ينفصل يجمعهما اتفاق غامض لم يحطّمه الموت.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق