28‏/7‏/2015

" Mr. Turner": صورة للفنان في كهولته




"كل فيلم من أفلامي هو رحلة إستكشافية نحو موضوعه"
- مايك لي

الفنان البريطاني جوزيف مالورد ويليام تيرنر /J.M.W. Turner (1775- 1851م) عُرف بلقب "رسّام الضوء" لاشتهاره برسومات الطبيعة وخاصة البحرية منها، أما المخرج الإنجليزي مايك لي/ Mike Leigh -على النقيض من ذلك- يمكن اعتباره أستاذ البورتريه. واحدة من أهم مهارات لي هو قدرته على استخراج أداءات استثنائية من ممثليه، وذلك عن طريق أسلوبه الخاص في الإخراج الذي يعتمد على تحاشي السيناريوهات المكتملة لصالح فترات مكثفة من الارتجال والبروفات لتطوير الشخصيات والمشاهد، وتلك الطريقة كانت وراء العديد من الدراسات الشخصية بأبعاد إنسانية وسيكيولوجية عميقة. على سبيل المثال ديفيد ثويليس في دور جوني "Naked, 1993"، إيملدا ستونتون في دور فيرا " Vera Drake, 2004" سالي هاوكينز في دور بوبي " Happy-Go-Lucky, 2008" والآن تيموثي سبال/ Timothy Spall في دور مستر تيرنر. طريقة خاصة جداً يعتمد فيها المخرج بشكل كبير على احترافية الممثلين ومشاركتهم الكاملة في العمل، لكن من يشاهد أفلام لي لا يشعر بهذا، ومن يشاهد فيلم السيد تيرنر تحديداً لا يتوقع أبداً أن يكون هذا العمل قد تم تنفيذه بهذه الطريقة، فالعمل يبدو مدروساً بكل تفاصيله، ولذلك فهو كثيراً ما يعمل مع ممثلين سبق له التعامل معهم ويفهمون أسلوبه تماماً ومنهم تيموثي سبال الذي سبق أن عمل تحت إدارته في فيلمي  "Secrets & Lies, 1996" و "All or Nothing, 2002".
لم يكن مايك لي في أفلامه السابقة يركّز على شخصية معينة، فقد كانت أعماله تحفل بالعديد من الشخصيات، البسيطة منها خاصة، وكانت تبدو في كامل بساطتها وعفويتها مُعبّرة عن الحياة البريطانية وصعوبات الحياة فيها دون بهرجة أو إبهار كعادة هوليوود التي يكرهها مايك لي ويرفض التعامل معها أو أياً من نجومها. نفس هذه الوجوه موجودة في هذا الفيلم أيضاً، وهو بهذا الشكل بعيد عن تلك الأفلام التاريخية التي تحمل شكلاً خاصاً وألقاً في أزيائها وديكوراتها وأشكال النساء فيها. هنا يحتفظ مايك لي بطريقته المعتادة ليعبر عن هذه المرحلة التاريخية تاركاً لنا بصمته، ويحسب له أن "مستر تيرنر" ليس كسائر السير الذاتية السينمائية التي تستعرض تعقيدات الوجود الإنساني من خلال سرد تقليدي وعلاقات رزينة يتم تقييمها من خلال اصطلاحات لطيفة عن الدقة والأمانة التاريخية وإمكانية الاحتمالات، فعلى الرغم من انغماس الفيلم في التفاصيل السِيريّة فإنه ليس متقيّدا بالسعي المستحيل لتقديم الحقيقة وبدلا من ذلك ينحو منحى شاعرياً ليرسم انطباعاً معيشاً عن ذلك الكائن الفاني وراء الأعمال الخالدة.

البورتريه الذي يرسمه المخرج للرسام الرومانسي ليس ساحراً بالمعنى التقليدي للكلمة؛ فالتناقض بين الفنان وفنّه يشكلّ واحداً من الثيمات الرئيسية في الفيلم. من اللقطة الأولى التي تضع المشاهد في هولندا لمتابعة زوج نسائي بملابس تقليدية تتحدثان بالهولندية أثناء جولة مشي بمحاذاة النهر وقت غروب الشمس. للحظة قد يتوهّم المشاهد أنه يشاهد الفيلم الخطأ قبل أن تتحرك الكاميرا لأعلى الكادر وتلتقط ذلك الرجل المعتمر قبعة وهو يرسم مشهد الطاحونة البعيدة، الأول من عديد من المشاهد التي تصوّر عزلة تيرنر وسط المناظر الطبيعية الجليلة. بالعودة إلى منزله بلندن، بالكاد يعير تيرنر الاهتمام باسئلة مدبرة منزله هانا دانبي (دوروثي أتكينسون Dorothy Atkinson) مكتفياً بأصوات ناخرة (لن نلبث أن نعتادها طيلة الفيلم). بعد ذلك يتلّمس صدرها وتغادر الغرفة. منظره الخنزيري وسلوكه الخشن يحطمان أي أوهام تنقلها لنا الرؤية المبجّلة  للفنان في مشهد المنظر الطبيعي السابق. عالمان متقابلان يمزجهما المخرج ببراعة: واقع تورنر الجاف بقسوته المجرّدة والحياة التي يبثّها في لوحاته عبر لغة سينمائية مذهلة بجماليتها البصرية ومشاهد الطبيعة التي يصورها بالتدرّجات المختلفة للّون والضوء. وجدير بالذكر أنّ ديك بوب/ Dick Pope مدير تصوير الفيلم حاز عنه جائزة خاصة من لجنة التحكيم في «مهرجان كان السينمائي» (2014).

يتطوّر الفيلم مع فترة تقارب الربع قرن الأخير من حياة تيرنر التي يغطّيها، وكذلك شخصية تيرنر، مع اكتشاف تدريجي لخصائص تعويضية عن صورة نمطية قد تتكوّن لدى المشاهد عن الرسّام بتعابير وجهه المتشنّجة وطبعه الحاد الذي لا يخلو من الفظاظة. نكتشف الفضول الفكري النهم، حسّ الفكاهة الفظّ، وهشاشة عاطفية واضحة على ظهوراتها النادرة. تيرنر -الذي نادراً ما اهتم برسم البشر- يحتفظ بالدفء والرعاية لقلة قليلة من الناس: أبيه، الذي يؤثّر موته عليه بشكل كبير، ولاحقاً السيدة بوث (لعبت دورها رفيقة المخرج ماريون بايلي/ Marion Bailey) والتي يشاركها علاقة طيبة خصوصاً في أيامه الأخيرة. مع ذلك قسوته تجاه النساء الأخريات في حياته لا تزال سقطته الرئيسية: واضحة جداً مع هانا التي يستغلها جنسياً ولايمنحها الوقت الكثير، وعشيقته السابقة سارة (أم لابنتين غير شرعيتين والتي تحمل الكثير ضده) عائلة مهملة يبدو أنه لا يحمل تجاهها سوى اللامبالاة. يعبر سبال عن إدراك تيرنر لأوجه قصوره من خلال مجموعة من الإيماءات الصغيرة والتعبيرات والأصوات الحلقية التي تكشف عن غضبه ومشاعره التي يتعاطى معها بالإنغماس التام في عمله.

تقول ويكيبيديا أن ويليام تيرنر رسام رومانتيكي عاش في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، ولد في لندن لأسرة فقيرة مكونة من أب يعمل في الحلاقة وصناعة الشعور المستعارة، وأم أصابها الجنون ثم انتقلت لاحدى المستشفيات حيث توفيت في النهاية. وتعتبر أعمال تيرنر مقدمة رومانسية للفن الانطباعي واعتبرت –في زمنها- من الأعمال التجريدية قبل ظهور هذا المسمى في بدايات القرن العشرين. يطلعنا الفيلم على علاقته بالبيئة الفنية في إنجلترا الفيكتورية من خلال بعض أقطابها البارزين من كونستابل الى هايدن وصولاً الى جون راسكن، ويمرّ كذلك على العلاقة بين الفنانين والسلطة وطبقة الصناعيين الصاعدة. ويقدّمه كمدرسة فنّية بذاته أثارت الفضول في عصره، فنّان خاض معركته الجمالية مع معاصريه ولم يتراجع رغم النقد العنيف الذي واجهته به المدارس التقليدية والطبقة الأرستقراطية. حاول التحرّر من هيمنة المدرسة الإنطباعية وسعى لتوثيق مشاعره بلعابه وعرق أبيه، يذوّب التفاصيل لخلق عالم سرابي، يتجاوز المرئيات ليصل إلى الأسباب الأولى ورائها. عالمه جحيمي لكن يمتلك نوره الداخلي كما في  لوحته «هنبعل يعبر جبال الألب» (1812). يواكب ذلك كلّه موسيقى جاري يرشون/ Gary Yershon بتواتراتها القلقة المتناغمة مع السكون المزخوم المسيطر على إيقاع الفيلم ويشبه هدوء الطبيعة ووحشيتها التي نلمسها في أعمال تيرنر. يضعنا الفيلم كذلك على تماسّ مع الحداثة من خلال نظرة تيرنر الفضولية والمتهكّمة والمتواطئة؛ هو الذي تميزّ بحساسيته لمجريات عصره واستشرافه لدور الفن في عصر جديد. يبدو ذلك واضحاً من خلال تعاطيه مع ظواهر حرّكت مخيّلته كالقطار البخاري المندفع في الريف الإنجليزي حتى أن طبيبه المعالج  قال له " لم يعد بوسعي ركوب القطار دون أن أذكر لوحاتك عن السكك الحديدية، وتحويلك لكامل المشهد لبخار عادم، والرجال الذين يحترقون بينما يحرقون الفحم في مراجل تلك القطارات."

لقد أدرك المخرج التحدّي في تناول شخصية مثل تيرنر وتجسيدها سينمائياً حيث أمضى عامين في الإعداد للفيلم و كتابة السيناريو وقضى ساعات في حجرة الرسوم بمتحف التيت بريتين/ Tate Britain لدراسة رسوم تيرنر ومخطوطاته وكل ما كتب عنه كي يخرج بما وصفه بالـ "المعنى العميق، والسامي، والروحاني، والجمال الملحمي والدراما المرعبة التي تتلّخص فينا نحن الأحياء على سطح كوكبنا الأرض". بالتناقض مع المشاهد المعتمة داخل بيت تيرنر، يجسّد المخرج رؤية تيرنر الفنية من خلال لوحاته المستحمّة في الضوء ليصوّر عبرها عالم الفنان الباطني. يضفر لي أعمال الرسّام في نسيج فيلمه، بحيث يكون المتفرّج شاهداً على عملية الابداع والانتاج وتناولاته المختلفة. نتابع لحظات الإلهام كما في المشهد الإفتتاحي، وفي مشاهد تالية يمكن التعرّف فيها على مصادر لوحات الرسّام المتأخرة: في لفتة رومانتيكية، يطلب تيرنر من قبطان السفينة ربطه في قمة الصارى أثناء عاصفة ثلجية فيما سيصبح لاحقاً لوحة « Snow Storm – Steam-Boat off a Harbour’s Mouth » (1842)، يفتن بالأعجوبة الحديثة، القطار البخاري، ويستلهم منها « Rail, Steam and Speed – The Great Western Railway » (1844). والأكثر إثارة للإنتباه ربما هو إعادة تمثيل لوحة «المقاتلة تمارير/ Fighting Temeraire » التي لاحظها تيرنر مع مجموعة من الفنانين الأصدقاء أسفل نهر التايمز،التي تأتي إلى الفيلم بغروب رقمي مضاف يبدو أقرب لجماليات " Life of Pi " للمخرج أنج لي أكثر من إتصاله بمايك لي الذي لم يتعوّد متابعوه لجوءه إلى تكنيك الصور المنشأة بالحاسوب أو ما يصطلح عليه إنجليزياً " CGI-rendition ". في مشاهد عديدة نلاحظ التركيز على "الجزء القذر" من العمل الفني نفسه حيث نشاهد نشاط تيرنر في الإضافات الغريبة لرسوماته في مرسمه الخاص، أو قيامه بعروض أدائية في الأكاديمية الملكية كأن يبصق أو ينفخ جزيئات الغبار البنية على لوحته أو يبقّع لوحة بحرية رقيقة بطلاء أحمر. ويطلّع المشاهد على إستقبال "الجمهور" لأعمال تيرنر: معاصريه من الفنانين والنقاد وحتى الملكة فكتوريا التي تتباكي على تخلّيه الكامل عن الشكل بينما يستمع إليها رابضاً في مكانٍ خفي.


يحتلّ تيرنر الآن مكانة مرموقة بين التشكيليين العالميين وبلغت أسعار لوحاته أرقاما قياسية مؤخراً، مثل لوحته المسماة «روما من جبل أفنتين» وشقيقتها الأشهر «روما الحديثة ــ كامبو فاسينو» التي بيعت بمبلغ ثلاثين مليون جنيه استرليني، وهو أعلى سعر للوحة فنية من نتاج ما قبل القرن العشرين. مفارقة سيدرك المشاهد قيمتها حين يشاهد الفيلم وذلك المشهد لرجل الأعمال الذي يعرض على تيرنر شراء كامل أعماله بما فيها التخطيطات، مقابل 100 ألف جنيها استرلينيا، و بلا تردد رفض تيرنر ذلك العرض المغري يومها قائلاً: " أعمالي ليست للبيع، فأنا أتركها للشعب البريطاني كي تعرض كاملة ومجاناً" ليرد المليونير مستنكراً: " وماذا سيعطيك الشعب البريطاني مقابل ذلك؟" فيرد الفنّان ببساطة: " لا شيء".
هنا يجب الإشارة إلى مشابهة دالة ومهمة بين المخرج وموضوعه: كلاهما جاء من مجتمع الطبقة العاملة ولكن تفاعلا -أو تورطا- مع الطبقة العليا، عملا في شبه عزلة وبعيدا عن الأضواء الباهرة، وفي الفترة المتأخرة من حياتهما تم اعتبارهما من الكنوز الوطنية البريطانية. و"مستر تيرنر" بالتأكيد من بين أفضل أعمال لي؛ بمعالجته الأصيلة والمقنعة لحياة "رجل قصير، شحيم، مضحك المظهر تصادف أن يكون عبقرياً" كما وصفه تيموثي سبال.

هامش عن تيموثي سبال


مساحة كبيرة احتلها سبال بجدارة في تصويره لأقنعة الفنان في تجوالاته بحثاً عن مواضيعه ومقتفياً أثر شغفه بالضوء. فقد كان في حالات كثيرة يصدر أصواتاً تعبر عن انفعال مكبوت، معطياً الايحاء للمُشاهد بأن هناك شيئا ما يحدث في داخله، كما في المشاهد التي تلت وفاة والده التي كان واضحاً فيها تأثّره من دون كلام أو مساعدة من المخرج بلقطات قريبة سوى أداء رفيع من الممثل نفسه. في الفيلم لم يلجأ المخرج كثيراً للّقطات القريبة، حيث هدف إلى وضعنا في سياق الحياة التي عاشها تيرنر بشكل كامل فجاءت الكاميرا دائماً على مسافة من الشخصيات وفي حالة ترقّب أو تأمّل؛ ترصد تحرّكات الشخصيات داخل المشهد وتفاعلها بصمت فيما بينها. وتطلّب أداء شخصية تيرنر الكثير من سبال لإيضاح مشاعره الكامنة في مواقف مختلفة من خلال آدائه. وقد ذكر سبال بعد فوزه بجائزة أفضل ممثل في «مهرجان كان السينمائي» في دورته السادسة والستين عن هذا العمل، أن الفيلم قد بدأ التفكير به بشكل جاد منذ ثلاث سنوات ولذلك فقد تدرّب على الرسم لمدة سنتين بطلب من المخرج قبل البدء في تصويره رغم معاناته الصحية قبل سنوات من لوكيميا الدم.
 سبال الذي لا يعرفه الكثيرون؛ ربما يتذكر البعض دوره المميّز وأداءه "الطبيعي" في فيلم سابق لنفس المخرج، فاز منتصف التسعينات بسعفة كان الذهبية وأعني فيلم " Secrets & Lies, 1996". أو ربما أصحاب الذاكرة الأكثر حدة يستدعون دوره قبل خمس سنوات في الفيلم الأوسكاري " The King's Speech, 2010" حين ظهر لدقائق قليلة في دور السير وينستون تشرشل، ومع هذا فإن حضوره بدا طاغياً حتى أن ناقداً قال "من الآن فصاعداً لن يمكننا تخيّل تشرشل إلا تحت ملامح هذا الذي نسيت إسمه". والآن بعد أداء شاهق يعلو كل شيء بجانبه تماماً كلوحات تيرنر، تصدّر سلسلة من الانطباعات التي حين تُرى من الزاوية الصحيحة تولّد رؤية مذهلة، فإن سبال سيبقى طويلاً في الذاكرة، هو الذي يغنّي في الفيلم بلسان أناه الأخرى مرثية ديدو:
"تذكّرني تذكّرني
ولكن إنس مصيري"

الفيلم: Mr. Turner
المخرج: Mike Leigh
إنتاج: 2014


حوار المخرج مايك لي مع بي بي سي


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق