17‏/1‏/2015

Adieu au langage (2014, Jean-Luc Godard )



بعد إعلان فيرنر هيرزوج وفيم فيندرز لدخولهم مجال الثري دي في أفلامهم القادمة؛ ظهر في مايو 2012 خبر عن نية المُعلَم الكبير جان لوك جودار إنجاز فيلمه القادم بالتقنية الجديدة وتبع ذلك إشارة من جودار عن إهتمامه بالتقنيات الجديدة التي تدخل في صناعة السينما لأنها "لا تملك أي قواعد وبالتالي يمكن للمرء أن يفعل بها أي شيء". قبل ذلك في 2010 تحدث جودار عن مشروع الفيلم "إنه عن زوجين لم يعودا يتحدثا نفس اللغة، وكلبهما الذي يأخذانه للتريّض يصبح متكلّماً. كيف سأصنع ذلك؟ لم أعرف بعد. الباقي سهل وبسيط". البعض حاول استباق الحدث وتندّروا على المخرج الكبير الذي نضبت أفكاره فصار يبحث عنها في تقنية جديدة رائجة سوف يُهدر فيها الكثير من المال وهو المخرج المعروف بأعماله التي تتناول تأثيرات الميديا (أفلام جودار في الثمانينات)، والبعض الآخر تكهّن بتحدّث الكلب بصوت مسموع غافلين عن تجربة جودار السابقة في "فيلم إشتراكية" وترجمته المكسّرة عمداً لحوار الفيلم المتطرّف في تجريبيته. تلك الاشارات المحيطة بالفيلم أوحت بتجريب أكبر قادم في الطريق وربما احداث ثورة للوسيط أكثر منه تقديم "فيلم فنّي" يحاكي أفلام القطط والكلاب المتكلمة والتجارب الهوليودية لاستغلال التقنية في أفلام ترفيهية. فما الذي فعله جودار؟

زورق يبحر في مرفأه. ماري شيلي، مؤلفة فرانكشتاين، تخدش كتابها بريشة. الحركة الثانية من سيمفونية بيتهوفن السابعة تبدأ لتتوقف فجأة، ثم تبدأ من جديد. امراة عارية تتذمر صارخة بينما عشيقها يصرخ ببذاءة لاعناً "البدين اللعين" في سلسلة أفلام "أوستن باور". كلب يجري للغابة، ثم يعود. الزورق يترك المرفأ. الشاشة تنبض فجأة بحياة ألوان الخريف الحمراء والصفراء. لقطة مقرّبة للكلب وهو ينظر مباشرة إلينا. هذه بعض الأصوات والصور التي ستختبرها في فيلم يلعب فيه جودار بالوسيط السينمائي ويتحاشى السرد المبسّط والمستقيم للفيلم مضمناً اياه موجة من الاشارات والتلميحات البصرية واللفظية كذلك؛ كاشفاً عن مستويات متعددة من الأحداث يستحيل الاحاطة بها كلها دون النظر في جميع الاتجاهات في وقت واحد. كولاج من اللحظات الكاشفة المنثورة بطول فيلم لا يخبرنا قصة بعينها بل يجمع الكثير من القصص في لعبة دائرية تؤكد وفاء جودار الدائم للتجريب وتحيلنا إلى وعده وأمله السابق في أن يفعل بالتقنية الجديدة كل شيء بدون قواعد.

يبدو الكلب في تنقله الحر والهائم أكثر حرية من الزوجين اللذين يشاهد ذبول حياتهما الحسّية وحيويتها تحت وطأة التزام الألفة بين شخصين "إننا نتحدث عن لا شئ. نحن لم نعد نحب بعضنا البعض"، وادراكهما لهشاشة فكرة المساواة بين الجنسين أو بين شخصين. "لا يكون المرء حراً حين ينظر لعين الآخر". ولكن كيف يمكن أن تكون حراً بدون أن تكون وحيداً ككلب هائم بين البرية والمدينة، بين الغابات والبحار. حتى ذلك لا يبدو كافياً لتحقيق السعادة والرضا فالكلب يبدو احياناً حزيناً وربما يبحث هو الآخر عن واقع جديد. "عندما يفشل الخيال، على المرء أن يجد العزاء في الواقع" يخبرنا النص على الشاشة في مفتتح الفيلم. ولكن ما الذي يأتينا به الواقع الضائع(؟). شلالات لحظية من الصور في أكبر مذبحة للافكار في التاريخ. صور في كل مكان وفي أي وقت. على انستجرام وفيس بوك، على شاشات التليفزيون والسينما، على الهواتف الذكية واللابتوبس، على الطرق والكباري. إذن فالعودة إلى استصلاح الواقع الذي تم تبويره هي عودة للحرية، ووداعاً لتلك اللغة السينمائية القديمة التي تعمل كمترجم أو وسيط تواصل. اللغة التي يعجز الرجل والمراة عن التواصل بها فيما بينهم. الصور تُحذَف من لغتها لتحصّلها على شرط التحقق في واقع ثلاثي الأبعاد: الكتاب، الزهرة، الطاولة، الهاتف جميعها يشعّ بألوانه المشبعة على الشاشة. الصورة ثلاثية الأبعاد لا تعترف بالحدود، مفتوحة على المجاز: كيف ترى صورة وهي أصلاً منقسمة إلى صورتين؟ تنظر لليمين. لليسار. تغلق عين وتفتح الاخرى. تحدّق تجاه مركز الصورة إلى أن تتعب. ثم أخيراً تصبح الصورة "واحدة". الكلب في تجواله، في تردده بين الذهاب والعودة، الاستمرار والتوقف، إنه لا يؤدي دوراً بل يصنع "واقعاً". الصور التي نراها بعين الكلب، وصور الكلب التي نراها، تبدو لعبة تبادل أدوار بين رجل وكلب في كيان واحد. سينما. واقع. واقع مقابل واقع وبينهما جسر جديد يجب عبوره. تلك سينما جديدة تماماً يخترعها جودار الذي لا يكفّ عن الابتكار حتى وهو في الثالثة والثمانين من عمره في عزلته الاختيارية في جبال الألب السويسرية.

عندما يخبرنا جودار عن "بساطة" فيلمه الذي يحكي عن" امرأة متزوجة ورجل وحيد يلتقيان ويقعان في الحب. يتشاجران. كلب شارد بين الريف والمدينة. تتعاقب الفصول، يلتقي الرجل والمرأة من جديد ويجد الكلب نفسه بينهما، واحدهما في الآخر. يصبحان ثلاثة. الزوج السابق يحطم كل شيء. الوضع كما كان في البداية. لكنه ليس كذلك. من الجنس البشري نمضي إلى المجاز. وينتهي هذا بالنباح، وصرخة طفل" فلا يعني ذلك بالضرورة أنهم نفس الشخصيات أو وجودهم في نفس الفترة الزمنية. فقط ذلك الكلب الذي يسرق الكادر (لعب الدور كلب جودار الأليف: روكسي) يبدو متحصلاً على كينونته الفريدة، شاهد صامت على على العلاقة الصاخبة بين الرجل والمرأة. في لقطة لكلبنا هذا وهو نائم على أريكة يأتي من خارج الكادر صوت جدال محتدم فتبرق في الذهن ملاحظة عباس كياروستامي (من مخرجي جودار المفضلين): "أحب تلك النوعية من الأفلام التي تسمح لك بقيلولة لطيفة". ذلك لا يعني أن هناك فرصة للنعاس في تلك السبعين دقيقة المضطربة (مدة عرض الفيلم) التي تستدعي أيضاً: حلّ هتلر الأخير، اقتباسات من ألكسندر سولجنستين، صامويل بيكيت، جاك إيلوي، داروين، أفلام فيلم هوليودية قديمة تعرض على تليفزيون الشاليه حديث التجهيز بينما الرجل والمرأة يحاضر كل منهما الآخر. عند نقطة معينة تلاحظ احدى شخصيات الفيلم مدى كراهيتها لـ "الشخصيات" (مع الوضع في الاعتبار تحرّر الفيلم الكامل من مهمة نشر رسالة ما). يتسائل جودار في ظهور نادر على شريط الصوت مقتبساً من رواية فرانكشتاين حيث يتسائل الدكتور إذا ما كان السماح للحيوانات البرية بمرافقة الإنسان خطيئة؟ خطيئة تجعل الانسان وحيداً. ثم هناك ذلك البعد الثالث المضاف الذي يستخدمه جودار الصانع الماهر بطريقة مذهلة تصل ذروتها في منتصف الفيلم تقريباً حين يأتي ذلك المشهد الذي يباعد بين منظورين للصورة ثلاثية الأبعاد ثم يدمجهما معاً في أورجازم بصري يجعل المشاهد نفسه منتشياً ومضطراً للوقوف لتحية ذلك المغامر العظيم.
بالمناسبة: كان "وداعاً للغة" هو الفيلم الوحيد الذي نال تصفيقاً من جمهوره أثناء عرضه في مهرجان كان الماضي 

مع تلك النشوة تأتي عقبة واحدة: هذا الابداع الكبير الذي يثير الأرواح يسبب صداعاً نصفياً -وليس في الأمر مبالغة أدبية- وتلك هي طبيعة الحال مع جودار الذي يتمرّد في أحلامه مرتاداً الطريق الصعب لسينما جديدة، متعمداً احداث النتائج الغامضة والمحبطة للتصوّرات المسبقة في فيلم يزعزع أرض اليقين من تحت أقدامنا ويضعنا وجهاً لوجه مع يأسنا واحباطنا وتشوّشنا الوجودي اليومي. عبثاً أن أحاول اخبارك عزيزي القاريء ما تعنيه دراسته الباذخة بصرياً والمتأملة بحكمة من جاوز الثمانين للتاريخ والخلود، الوجود والعدم، الرغبة والموت. ولايمكنني تحديد موضع "وداعاً للغة" في مجمل أعماله، أو كيف سيكون شعوري تجاهه بعد أيام أو سنين من الآن. ولكنني أستطيع نسج فيلمي الخاص من المشاهدة (مشاهدة واحدة لا تكفي أبداً تلك التحفة السينمائية)، ولذلك أنا ممتن للتجربة التي ليست بالضرورة صالحة للجميع.





المُعلِّم يلجأ للمجاز
في لحظة ما أثناء مشاهدة الفيلم سيطرت عليّ فكرة مزدوجة: فمن ناحية تبدو تلك القصيدة البصرية المستقبلية التي أشاهدها وكأنها بداية جديدة لطريق سيمشيه جودار وينجز فيه أفلاماً قادمة، ومن ناحية أخرى يمكن رؤية الفيلم  كفصل أخير في سِفر ذلك الفيلسوف العظيم.
 صوّر جودار الفيلم بخمس كاميرات بينها كاميرا هاتف محمول، كما استخدم تقنيتي العرض الثنائي والثلاثي الأبعاد بشكل متواز أحيانا ليخلق تجربة سردية غير مريحة بصريا ولكنها تمنحنا تلك الحالة البصرية والنفسية التي يسعى لتوصيلها إليها (هل جودار مهتم أصلا بنا كمشاهدين بعد كل هذه السنين؟). قارب جودار في أعماله التي تزيد على مائة عمل فني (ما بين أفلام سينمائية وتليفزيونية، روائية ووثائقية، طويلة وقصيرة، بمفرده أو بالاشتراك مع آخرين) الحروب العالمية وذلك الجنون الذي يحكم العالم، ودرس كثيراً الجسد البشري وتمثلاته، ووسائل الاتصال والاعلام وتأثيراتها. كل أعماله تتناوبها تيمتين أساسيتين: الإنسان والتاريخ. يبدو مرتاحاً في لعبته المستمرة بتقليب وجهي عملته ولا أعتقد أن "وداعاً للغة" -على تجريبيته الشديدة- أفلت من موضوعيه الأثيرين، فجودار يبدو مهتماً بالانسان في زمنه وثقل وجوده وعجزه عن التواصل (في نبرة رثائية تقول المرأة لشريكها الجالس على قاعدة التواليت: أنا أتحدث بالمساواة وأنت تتكلم بالخراء)، بالتساؤل عن ضرورة اللغة وورطتها (كيف أن اللغة تصبح ضدّاً للوجود الإنساني)، يتسائل عن الكيفية التي تجعله يصنع تلك الوحوش البشرية التي يمجدها باسم الحرب والانتصارات الوهمية ويصير وحشاً هو الآخر (هتلر حاضر على الدوام)، ومهتماً كذلك بالتعريفات المراوغة لـ "التقدم" و"التطور" التي تسيطر جدالاتها على أوربا اليوم (يعود إلى ألمانيا كعادته لوضع حفنة من الأفكار الشائكة على مائدة أوروبا). يستخدم أصوات شخصياته للتعبير عن تلك الأفكار وغيرها مضيفاً تعليقا صوتيا هو المعادل لصوته كفنان حاول طيلة حياته السينمائية التي امتدت لأكثر من خمسين عاماً استغلال الصورة لتقديم رؤيته للحياة؛ تلك الرؤية التي تبدو تشاؤمية وأقرب لرثاء للذات وللفن الذي لم يعد يقدّره أحد. وهنا لا يمكن إغفال ظلال علاقة جودار برفيقته آن ماري ميفيل على الفيلم.

 ربما ذلك "النَفَس الذاتي" هو ما جعلني أحب فيلمي جودار الأخيرين؛ فهما عملين يمكن مقاربتهما للـ"السينما الشخصية" لجوناس ميكاس وكريس ماركر أكثر مما يمكن الحاقهما بأفلام جودار" الملتزمة بالكفاح الثوري" في الماضي التي تبدو وكأنها بيانات حزبية متطرفة.نعم، ماركس وماو وتروتسكي لا زالوا حاضرين كمرجعيات في بال جودار ولكن كجزء من ادراك أكثر حكمة، يلمّح ولا يصرّح، يلجأ للمجاز لعرض ما يريده. تلك الشاعرية بالغة الدلالة في التركيز على ديمومة الحيوان والطبيعة في مقابل هشاشة وجود الإنسان جعلت الكلب بطلاً للفيلم؛ تتابعه كاميرا جودار وهو يلعب في جدول مائي كما لو أن حركاته أحداثاً هامة في التاريخ. هل يريد جودار أن ينبهنا إلى فكرة الفيلم الرئيسية؟ هل هذا فيلم عن المساواة؟.
 "بعد أن ثارت النساء للمطالبة بمساواتهن مع الرجال، تبعهم الأطفال وقامور بثورتهم الخاصة لمساواتهم مع البالغين، ثم جاء الدور على الحيوانات فأعلنوا حقهم في المساواة مع البشر" هذا ما تكلّم به جودار منذ عدة سنوات في حديث صحفي، وأورده هنا للتأكيد على راديكالية جودار في طرحه لفكرة المساواة، ففي التكوين البصري لمشهد الكلب روكسي وهو يلعب في الماء لا ينبهنا فقط المخرج إلى مساواته مع الانسان في الفيلم، ولكنه أيضاً يمدّ سقف المساواة هذا على الماء الذي يتشاراكانه. كل شيء/شخص له نفس الحق في الحضور أمام الكاميرا وكأن جودار يتمثل مقولة روزا لوكسمبرج (الفيلسوفة الماركسية والنسوية) عن مصير تلك الحشرة المؤثر بنفس قدر تأثير الثورة الشاملة.

 في البدء تعلّم قابيل كيف يدفن أخيه حين رأي غراباً يحفر في الأرض قبراً لصديقه. يحيلنا الفيلم إلى ريلكة "إن ما هو باطني لا يحسّه سوى الحيوان.". يقدم جودار الاجساد البشرية العارية دون حرارة، يعبرها سريعا، بينما يتابع الكلب باهتمام وحنو بالغين. بمثل هذا التفاني ينبهنا جودار إلى حاجتنا للحيوان كي نتعرف على ذواتنا من خلاله. أن نتبع أصغر الأشياء التي قد تساعدنا في تحقيق الرضا والانسجام.



نشر في موقع التقرير  بتنسيق مخالف، وظهرت  نسخة مختصرة  من المقال على شباب السفير