18‏/11‏/2015

"درب الصليب" لديتريتش بورجمان: ومن الإيمان ما قتل


في العام الماضي أثناء فعاليات المهرجانات السينمائية المختلفة، كنت كعادتي أتابع التغطيات الصحافية التي تقدمها المواقع السينمائية التي أتابعها وبدا واضحا بروز فيلمين ألمانيين عن غيرهما من الأفلام الألمانية الأخرى: "درب الصليب" و"فينيكس" كان اسمي الفيلمين. الأول لمخرجه الذي لم أسمع باسمه من قبل ديتريتش بروجمان (Dietrich Brüggemann)، والثاني لـ كريستيان بيتزولد (Christian Petzold) وهو واحد من مخرجيني المفضلين وأحد أبرز أسماء "مدرسة برلين" الجديدة للسينما إلى جوار توماس أرسلان (Thomas Arslan) وأنجيلا شانليك (Angela Schanelec).
"فينيكس" فيلم مميز يضيف مساحة جديدة للتقدير إلى قيمة وقامة مخرجه (وممثلته المعتادة والرائعة نينا هوس)، ولكن تركيزي في هذا المقال سيكون على فيلم "درب الصليب" للوافد الجديد في قائمة المخرجين الألمان الجديرين بمتابعة جديد أعمالهم (عُرض له فيلم جديد بعنوان "خلاص"في الدورة الأخيرة من مهرجان كارلوفي فاري، يناقش ظاهرة النازيين الجدد في إطار من الكوميديا السوداء). وبقليل من البحث وصلت إلى بعض المعلومات عن ديتريتش بروجمان: من مواليد ميونيخ في عام 1976. نشا في ألمانيا وجنوب أفريقيا و عمل في صناعة الأفلام في وظائف مختلفة بين الأعوام 1997 و2000 ليقوم بدراسة الإخراج السينمائي في أكاديمية السينما والتليفزيون في مدينة "بوتسدام" القريبة من العاصمة الألمانية. بدأ هذا المخرج أولى أفلامه الروائية الطويلة عام 2006، حين أخرج فيلم "تسعة مشاهد"، قبل أن يخرج فيلمه الروائي الثاني "اركض إن استطعت" عام 2010. وفي عام 2012 أخرج فيلمه الثالث "ثلاث غرف/مطبخ/حَمّام".
 في فيلمه الروائي الرابع، يحيلنا عنوانه إلى الطقس المسيحي الخاص بدرب الجلجثة والذي اختاره بروجمان ليضبط إيقاعا جنائزيا لفيلمه مُقسَّما إياه لأربعة عشر مقطعا ترقم المسيرة الإستعارية للبطلة (الحكم على المسيح بالموت، حمله للصليب.. إلخ) وهي تسير على درب جلجثة حديث تتماهي فيه عذاباتها مع ألم الناصري القديم جارّا صليبه الخشبي نحو حتفه. بلقطة طويلة وثابتة، شاحبة الألوان والإضاءة تمتد لحوالي ربع الساعة، يفتتح الفيلم حكايته ويُهيّيء مُشاهده لما سيتتابع من مَشاهد تحمل توقيع مدير التصوير المعتاد في أفلام بروجمان، ألكساندر ساز. على طاولة واحدة نشاهد اجتماع قِسّ شاب (فلوريان ستيتر) وحوله مستمعين صغار كنموذج مصغّر لمصانع الزحف المقدّس والطاعة الواجبة واليقين الداخلي الدائم. نستمع لنصائح القسّ الذي يدعو "رعاياه" الصغار إلى التضحية بكل متعة دنيوية في سبيل الإتحاد بالمسيح. وكأي مالك للحقيقة المطلقة من رجال الدين والناطقين باسمه، يدعو تلامذته لتوجيه "الآخرين" إلى المِثل: "حين تجدي صديقتك تستمع إلى الموسيقى، انصحيها بالتخلّي عن هذه المتعة-الخطيئة لإنها تبعدها عن السماء". حين تفرغ حجرة الدرس الكَنَسية بمغادرة التلاميذ، تنتظر ماريا (ليا فان آكن) لتسأل القِسّ عما يشغل بالها: هل تستطيع التضحية بحياتها لأجل المسيح؟ والمُشاهد بدوره لن يكون متأكدا عما إذا كانت الصبية تبنّت دعوة ذلك الكاهن في أن تكون "مُحارِبة من أجل تعاليم المسيح"، أم أنها تلبّست محنته بإرادتها قبل اقتناعها؟. لا يقدم المخرج شرحا أو تبريرا لتلك "القفزة الإيمانية" التي تأخذها ماريا من أجل التقرُّب إلى السماء، وما يقوله الكاهن حول "الخطوة الهائلة اللازمة لردم المسافة بين المنطق ولا احتمالياته" ليس سوى أحجية موجّهة إلى المتفرّجين الذين سيتابعون مسارا متداعيا ستسلكه حياة ماريا في رجائها المستمر للالتحاق بالربّ الذي يناديها.

هناك شيئا مميزا في هذا الفيلم
الأفلام لا تفوز بدب "برلين" الفضي من دون أسباب وجيهة. حتى في فئة أفضل سيناريو التي استحدثها المهرجان العريق؛ يظلّ حمل تمثال الجائزة مؤشراً جيداً على عمل يستحق التقدير. ومن الإنصاف القول أيضا أن المهرجانات السينمائية الأوروبية الكبرى تعطي اهتماما وتقديرا لمحاولات تطوير وتثوير الصورة والسرد السينمائي أكبر مما تفعل مع توثيق اليومي والمعيش. "درب الصليب" لديتريتش بروجمان يتوافق تماما مع القواعد الضمنية للفوز في "برلين": سلسلة قوية من اللوحات السينمائية ذات اللقطة الواحدة تدين بكثير من فاعليتها لأسلوبها بدلا من مضمونها. ربما من الغريب التفكير في شيء مثل "معرض سينماتوغرافي"، ولكن إذا كان ثمة فيلم استفاد من ذلك الشيء فالمؤكد أنه "درب الصليب". تقدير الفيلم على مزاياه يأتي مع ملاحظة: الأعمال التي تنال حظّها من المديح النقدي المكثّف،عادة ما تكون مدينة لأفلام معاصرة أخرى ربما تفضلها، وعلى هذا النحو يخفت بريق الأولى حين توضع في مواجهة اقتراحات راديكالية حقيقية. عمل "بروجمان"، الذي يقدّم نفسه كبحث سينمائي شديد العلمانية حول "صناعة الإيمان"، يبدو في بعض الأحيان مجوّفا ويدور حول نفسه في حلقة مفرغة من دون مقاربة دقيقة لعملية التلقين الديني المُمهِدة للثيوقراطية التي ينتقدها الفيلم. من الصعب أن تجد لفتة تهكّمية أو لقطة تتطلب الكثير لانجازها، وبنفس القدر تكون صعوبة مَحبّة المُشاهد لشخصيات الفيلم التي تأتي لتحاكي تقشّف الفيلم الأسلوبي بطريقتها الزاهدة في الحياة، ليعمل الفيلم أخيرا من خلال ثيماته المختارة كدراسة مكثّفة لمفهومي التضحية والموت.  
كل ما في هذا الفيلم يغلّفه شيء من الجِدّة الفكرية والكآبة الملازمة والقسوة المبطّنة في آن واحد. في آتون حكاية الفيلم، ماريا ذات الأعوام الأربعة عشر (بالتأكيد)، كاثوليكية بافارية ملتزمة تصبح مهووسة بالقداسة والخطيئة، تلعب دورها ليا فان آكن في أداء سينمائي نادر يعتمد على شيء آخر غير سحر التأثير الطفولي. بدلا من ذلك تبدو ماريا باردة، محافظة، تميل لاطلاق الأحكام، وبالأساس لا تدعو المتفرج للوقوع في حبها. كاتبة السيناريو "آنّا" شقيقة المخرج، تستحق بعضا من المديح على تماسك شخصية ماريا كما ظهرت في الفيلم بديلا عن اللجوء لكليشيه الفتاة التي تترك سنوات مراهقتها الصعبة وراءها في الكنيسة لتنطلق في الحياة (1). شخصيات الفيلم هم هؤلاء البشر الذين يبحثون عن شفاعات لخطايا تدركهم أينما حلّوا، مصبوبون على أن الخطيئة ملازمة للإنسان في دنيا تغريه بالشهوات فتخدش طهارته. وليس سوى صراع يومي ودائم يتبع ذلك الادراك للثقل الوجودي للانسان (من زاوية دينية بحتة)، صراع يؤمن خائضوه بربّانيته وضرورته للتحرّر من براثن الشهوة. ماريا، وهي واحدة من تلك الشخصيات، تنشأ على هذا الشكّ الأبدي في موبقات تحاصرها، فتقع الصغيرة ضحية صراع أكبر منها: صراع إيمان وإنكار، حياة وموت، وجود وعدم. تتساءل إن كان يجب عليها الافتداء بروحها لإبن الربّ كي تثبت لوالدتها المتعصّبة ولزملائها تفانيها الإيماني واستعدادها للشهادة، عملاً بـإنجيل يوحنا الذي يقول: "كُلّ مَنْ يؤمن بيسوع، تكون له حياة أبدية". تشخيص ماريا باعتبارها مُلتزمة دينيا تدفعها معاناتها أكثر إلى الإيمان وكراهية الذات معا، هو تصوّر صادق وأمين للأصولية الدينية أكثر مما قد يعترف به الكثيرون، وهذا التشخيص بالتحديد هو مكمن أهمية الفيلم وقصّته.
من المخيّب للآمال بعد ذلك أن محاولات تطوير السرد تدعيما لتلك الشخصية تتمّ إعاقتها -بدلا من تعزيزها- برمزية "درب الصليب" التي يستخدمها المخرج لهيكلة فيلمه وترقيم مشاهده. كلّ لقطة من لقطات الفيلم الأربع عشرة يسبقها تصدير نصّي، باللون الأبيض على خلفية الشاشة السوداء، يخبرنا رقم وتسمية مرحلة من مراحل صلب المسيح التي ستتصلّ بالمشهد القادم. المتفرّجون ممن هم على دراية كافية بالكاثوليكية (أغلب المتفرجين المصريين لا ينطبق عليهم ذلك الوصف) سيعلمون بالضرورة طيف المشاعر الإنسانية الذي يستكشفه هذا المسار، مع المسيح (/ماريا) الذي يقع تحت وطأة الصليب ثلاث مرّات، ويجد السلوى في طيبة الآخرين، وفي الأخير يقابل نهايته. ولكن إصرار "بروجمان" على حوار  "ثقيل" ومكثّف فوق مساحة نصّية ممتدة، ينتهي ببيعه تلك البنية الذكية "على المكشوف"، إذا جاز التعبير.

ديستوبيا الإيمان
يُصوّر بروجمان محيط بطلته في رتابته وعاديته وصرامته اليومية لتتضحّ صورة ماريا المتشرنقة داخل إيمانها وهي تكتشف أمورا غائبة عن حياتها: الحب، الغيرة، الغضب، الإيثار. يتم استهدافنا لقراءة تعنّت اللقطة الواحدة والتقسيم المرحلي ككناية عن إدراك ماريا للإيمان، إدراك "الأسود والأبيض" كمسار متسلسل من الأحجار الخطرة للوصول إلى الربّ، يتم اختباره من قبل الشيطان والموسيقى. يقابل ذلك إصرار الأم (فرانشيسكا فايس) الذي لا يلين على الاستكانة لقولبتها الفكرية، وهو ما عبَّرت عنه طيلة الفيلم بلا توقُّف وحتى بعد موت ابنتها في المستشفى. تتناوب الأم عاطفتها الأمومية وفي نفس الوقت إيمانها "الجوثيكي" بطرق وحلول "روحية" ترى فيها خلاصا لابنتها المسجاة على سرير موتها. تأتي بالقِسّ كي تحل عليها البركة، ولكن تضلّ البركة طريقها وتذهب ماريا في غيابٍ أبدي. تصرّ الأم على تأكيد إيمانها بعد موت ابنتها بقولها أن موتها "تضحية افتدت به ماريا شقيقها المريض ونالت به بركة الربّ". تصوير والدتها كمبشرّة إنجيلية بلا قلب، باعتبارها حارس النِعَم والامتنان لها، والقَيِّم على توزيع البشارة، كونها "قدرة الله لخلاص كل مؤمن"، وتكريس وقت أطول على الشاشة لخطبها وتقريعها لابنتها بدلا من شخصية مؤثرة مثل الكاهن الشاب والوسيم (والمتملّق أيضا) الذي يحدّث الأطفال في مدرسة الأحد عن كونهم "محاربي المسيح"، اختيارات كهذه تعطي الانطباع بالحسم الواقعي الذي ينحاز له صنّاع الفيلم على حساب تحويل الفيلم إلى حكاية رمزية عن الحياة الحديثة. مَشاهد كثيرة انتظرتْ لحظة انفجار والدة ماريا بالغضب على مخالفة ضد الرب، بنفس الطريقة التي نقضي فيها الوقت مع أفلام هانيكى وكيسلوفسكي منتظرين لحظة من الفُحش أو العنف أو أيا من علاماتهم المميزة. هنا لا يفعلها بروجمان بالطريقة المثلى.
المَرجع الآخر للفيلم يمكن العثور عليه عند المخرج السويدي روي أندرسون (Roy Andersson)(2)، الذي تميل أنطولوجياته الفيلمية العبثية إلى توظيف مشابه للمدّة الزمنية للّقطات والإضاءة وباليتة الألوان والاقتضاب الحواري. في هذا الصدد، يملك بروجمان المقدرة على منح فيلمه الازدهار الشكلاني الذي يستخدم بشكل جيد رغبة الجمهور في أسلوب اللقطة الواحدة الطويلة. حين تمرض ماريا بشكل غير متوقع وتنهار في حفل تعميدها، يتم سريعا استبدال الديكور الفاخر والمذهب للكاتدرائية بمكتب طبي بارد ومبالغ في تعقيمه، وبمعاونة حمولة بصرية قوية تذكّرنا بالواقع بواسطة لوحات الصليب (3) يقدّم بروجمان قطعة من "النحو" السينمائي الفاتن. الثلث الأخير من الفيلم يصوّر ماريا في نزولها عن قمتها الإيمانية إلى ما يُفترض أن يكون "صعودها اليسوعي"، يضرب بقوة تكافىء باقي أجزاء الفيلم. التلقين الذي تسبّب في ضياع أمنيتها في الموت مُتخفّفة من ثِقل الخطيئة، فشل في إيصال ماريا للطهارة التي وُعدت بها، ولكن ينتهي الفيلم مع لقطة لا تُمحى لزميل المدرسة الذي يشاهد رافعة تهيل التراب على قبرها في يوم شتوي غائم، الصليب بجوار القبر مائل إلى الأرض والولد يرمي بوردة بيضاء إلى ماريا في قبرها.
مع كل هفواته -وكثير منها يبدو مدفوعا بالرواج النقدي لأسلوب كان يمكن للفيلم الاستفادة منه بصورة أكبر- فإن "درب الصليب" يظلّ أكثر من مجرد فيلم يوفّر لحظات "عميقة" عن الدين والإيمان، بل هو ابداع بصري قادر على مغالبة قيوده ليقدم فيلما صارخا ولكن محدد ويعرف هدفه جيداً، ليخرج مُشاهده في نهاية هذا الدرب الكابوسي بخبرة ثقيلة عن التحريض العقائدي الذي لا يمنع التقوى وكل الأماني الطيبة للمؤمنين من زلّات الفهم الخاطيء والمدمّر للأديان وتعاليمها.


هوامش:

(1) يمكن الإشارة إلى فيلم قريب جغرافيا وزمنيا من فيلمنا وهو الفيلم الهولندي الجميل (Dorsvloer vol confetti) والذي قارب موضوعا مشابها من دون تفادي ذلك الكليشيه.
 (2) بحيث بسيط على جوجل ومقارنة فيلم بروجمان بفيلم أندرسون "أنت، الحياة" (You, the Living) ستوضّح مدى تشابه الفيلمين.
(3) اللقطات الأربع عشرة المعروضة هنا تحاكي النقوشات الخشبية والرسومات التقليدية في صحن الكنيسة الكاثوليكية.

12‏/11‏/2015

الحياة اليومية للآلهة: صور


يقوم الفنان الأوكراني أليكسي كونداكوف بالعمل على مشروع مستمر يسمّيه "الحياة اليومية للآلهة"، يدّس فيه شخصيات لوحات البورتريهات الكلاسيكية في بيئات حديثة وأجواء كئيبة غالباً وعادة ما تكون النتيجة مفاجئة ولافتة.

4‏/11‏/2015

معرض للأيدي 2


A Walk to Remember (Adam Shankman, 2002)
A Girl Walks Home Alone at Night (Ana Lily Amirpour, 2014)
Home Alone (Chris Columbus, 1990)
Kairo (Kiyoshi Kurosawa, 2001)
Pulp Fiction (Quentin Tarantino, 1994)
Nanook of the North (Robert J. Flaherty, 1922)