17‏/2‏/2015

"The Immigrant".. تفكيك الحلم الأمريكي



مخرج هذا الفيلم، جيمس جراي James Gray ، يبدو شاذاً على المشهد الهوليودي المعاصر، فخلال مشواره الاخراجي الذي شهد خمسة أفلام دأب عبرها على تأكيد حساسيته الخاصة والتي تتجاوز التأثير اللحظي وتحتوي الفيلم بعاطفة صادفة وميزانسين  mise-en-scene خالٍ من الهفوات. في الثالثة والعشرين من عمره يتخرّج من برنامج الأفلام التابع لجامعة كاليفورنيا الشمالية USC: مخرج من الجيل الثاني للمهاجرين الروس اليهود، قادم من الأحياء البعيدة لنيويورك.  أول أفلامه Little Odessa كان في عام 1994 وتدور أحداثه في المجتمع الروسي ببروكلين. قام ببطولته تيم روث Tim Roth وإدوار فورلونج Edward Furlong، ولسوء حظّه تزامن ظهوره مع فيلم آخر لتيم روث ولم يكن ذلك الفيلم سوى Pulp Fiction الذي تصدّر الصورة تماماً. Little Odessa فيلم جريمة بمسدسات وعصابات ولكن بدون الثرثرة اللفظية والألعاب الكلامية التي احتشد بها فيلم تارانتينو Tarantino. بدايته السينمائية كانت متقشفة بدون بهرجة ولسنا بحاجة للقول بأنه لم يحقق نجاحاً كبيراً في شباك التذاكر. يمكن التحسّر على الزمن الذي ظهر فيه جراي، حيث يبدو وكأنه ليس هناك وقتاً أسوأ مما ظهر فيه على الساحة السينمائية. إذا كان ثمة سَكّ افتراضي للقبول في التيار الرئيسي mainstream للسينما الأمريكية فسيكون للسخرية الباردة، في حين أن أفلامه جادة دون خجل. الموضوع الحاضر فيهم جميعاً هو "إستحالة الهروب من العائلة". في Little Odessa تيم روث قاتل يعود لأرضه القديمة وأسرته التي اغترب عنها في الجحيم. في The Yards من بطولة يواكيم فينيكس Joaquin Phoenix (والذي عمل معه المخرج في كل أفلامه التالية) ومارك والبرج Mark Wahlberg حياة الأخوين تتدمّر حين يرتكب أحدهما جريمة قتل ويحاول الصاق التهمة بالآخر. في We Own the Night  يعود الثنائي في دور أخوين يسعيان للانتقام لمقتل أبيهم، قائد الشرطة، على يد العصابات الروسية. آخر فيلمين لجراي شكّلا خروجاً نسبياً على تيمة العائلة: Two Lovers كان معالجة فضفاضة لاحدى قصص دوستوفسكي بدون أياً من عناصر النوع genre التي طبعت أعماله الأولى، فينيكس، مرة أخرى، لعب دور رجل ثلاثيني، هشّ، يعيش مع والديه ويحاول التكيّف مع زوجة مفترضة اختارها له والديه (ابنة مالك منافس لأحد مغاسل الدراي كلين). فيلمه الأخيرThe Immigrant  من بطولة ماريون كوتيار Marion Cotillard في دور مهاجرة بولندية تصل نيويورك على غير هدى ومستعدة للتضحية بنفسها لانقاذ شقيقتها.

الاخفاق التجاري والاهمال النقدي لجراي في بلده يضعان علامة استفهام كبيرة. أفلامه الثلاثة الأولى كانت أفلام جريمة من نوعية نادرة، أيضاً مليئة بضباط الشرطة والعصابات، وضمت أسماء نجوم كشارليز ثيرون Charlize Theron وإيفا مينديز Eva Mendes. ولكن وحدهم الفرنسيون، كعادتهم، انتبهوا إلى المخرج وأولوه الاهتمام اللازم. أربعة من أفلام جراي الخمسة عرضت في مهرجان كان السينمائي، يبدو نجماً هناك في مقابل اهماله من قبل المتابعين الكاجوال casual cinephiles من الناطقين بالانجليزية، هؤلاء الذين ينتظرون الفيلم الجديد لويس أندرسون Wes Anderson. ملاحظة تلخّص الكثير. في حوار إذاعي جرى العام الماضي، تحدث جراي عن الطريقة التي جعلت أندرسون، وهو صديق له بالمناسبة، علامة تجارية للنجاح السينمائي من خلال "اصراره على أسلوبه السينمائي وتعويد المشاهد عليه".  ولكن أندرسون، في نهاية المطاف، متعهّد الـ deadpan affect، مسلّي ومطمئن. في حين أن عالم جراي مفتوح على المآساة، وقدرة شخصياته على التحكم بمصيرها تكون واهية في أفضل الأحوال، وهذه فكرة غير شعبية في أمريكا التي يسعي غالبية جمهورها لأفلام تمنحه شعوراً جيداً Feel-good films، وحيث الرابحون والخاسرون losers ثنائية يُنظر للحياة (والأفلام كذلك) من خلالها.


أفلام جراي ليست متعالية على الحراك الاجتماعي. هو واحد من القلة النادرة من السينمائيين الأمريكيين المهتمة بالطبقة الاجتماعية، والطريقة التي تؤثر بها في رسم حياة الجميع عدا أولئك الأكثر حظاً وموهبة. هذا الاهتمام لم يكن بصورة أوضح مما هو في The Immigrant الذي يبدو من نواحٍ كثيرة كتفكيك للحلم الأمريكي: إيفا (ماريون كوتيار Marion Cotillard بأداء رائع كعادتها) تهاجر مع شقيقتها ماجدة (Angela Sarafyan) إلى نيويورك في عام 1921 لاقامة حياة جديدة. فور وصولهما، يتم احتجاز ماجدة، المصابة بالسلّ، في الحجر الصحي. حائماً حول منطقة الوصول، برونو القوّاد (قام بدوره يواكيم فينيكس Joaquin Phoenix) يستخدم ماله لرشوة حارس، وحيله ليأخذ إيفا إلى منطقته. لاحقاً، يدلي برونو بجزرته إلى إيفا البريئة: إذا واظبت على عملها في البغاء فسوف تقتسم المكسب مع برونو وتكون بذلك قادرة على شراء وسيلة لاخراج شقيقتها من الحجر الصحي على جزيرة إليس.

يرى الكثيرون جراي كمخرج من السبعينات، خارج عن الزمن، ويظهر ذلك جلياً في The Immigrant. من الصعب رؤية أياً من المشاهد على جزيرة إليس بدون التفكير في الجزء الثاني من The Godfather والشحوب الخريفي الذي يستدعي كوبولا Coppola ومدير تصويره جوردون ويليس Gordon Willis وهناك تناصات في قصة الفيلم مع La Strada  لفيلليني Fellini. ولكن مراجع جراي ليست كلها سينمائية. في حوار مع جوردان منزر Jordan Mintzer، أشار جراي إلى المؤثرين عليه: إدوارد هوبر Edward Hopper، ماكس بكمان Max Beckmann، هيتشكوك (استخدامه لتصميم الصوت خصوصاُ)، فيسكونتي Visconti (والذي يظهر تأثير فيلمه Rocco and his Brothers في أكثر من فيلم من أفلام جراي الأولى).
 ثم هناك فوق كل هؤلاء: شكسبير Shakespeare. يتحدّت جراي في الحوار عن مشاهدته لعرض في السنترال بارك Central Park  لمسرحية Measure for Measure وفيها يُحكم على رجل بالاعدام، فتتوسّل أخته، الراهبة، إلى القاضي للتراجع عن قراره. القاضي يوافق بشرط أن تنام معه، أو كما يقول جراي "السؤال هو: هل تدمّر نفسها أمام الله، أم تُبقي على طهارتها ويموت أخوها؟. إنها معضلة لا تُصدّق". لا تُصدّق فعلاً تلك التراجيديا الشكسبيرية التي أتى بها جراي إلى The Immigrant مُغيّراً فقط من جنس الأخ السجين. ووفياً للشكل، قدّم رؤية قائمة وإنسانية أيضاً لمهاجرة تتنازل عن نفسها في سبيل إنقاذ شقيقتها، والرجل الذي يجبرها على القيام بذلك ليس شيطاناً في النهاية. نسخة جراي ليست عن إيفا التي تصارع في سبيل ألا تتنازل عن نفسها، ولكن عن صراعها مع الآثار اللاحقة لقرارها بالتنازل.

الفيلم يحتوي على لقطات تعرض الأشياء مع إتساع المسافة إليها. أولها تمثال الحرية، كما نراه من قارب في المحيط. إنها كناية تقليدية ولكنها هنا قوية في الاشارة إلى الحلم الامريكي الذي يبتعد عن المتناول. ولكن على مستوى أكثر شاعرية فهي تتوافق مع الجو الضبابي والشبحي للفيلم الذي يستوحي بشكل متساوي ذكريات جدي المخرج، المهاجرين البولنديين، وأوبرا Il Trittico لبوتشيني. فيلم يمضي في قصته بطريقة زمنية خطية للأمام ولا ينفك يعطي الشعور بأثير الذاكرة. تلك التأثيرات المتباينة –استعادات شخصية ملتحمة بالدراما المسرحية- ساهمت في اعطاء الخصوصية لتلك الميلودراما التي ابتعد فيها جراي عن حشدها بالكثير من اللحظات الكبرى Big Moments مثلما هو الحال في تلك النوعية من الأفلام، وبدلاً من ذلك استعان بمدير التصوير الرائع داريوش خونجي Darius Khondji ليصوّر بطبقات ناعمة ومصقولة من البني الداكن Sepia ورطة إيفا في أمريكا، وذلك بهدوء تام وكآبة لا تخطأها العين.

مع اعتقادي بأن The Immigrnt تفكيك للحلم الأمريكي، فهو ليس هدماً بالمطلق لتلك الفكرة. في نهاية الفيلم، برونو الذي وقع في غرام إيفا، يصل بها إلى جزيرة إليس حيث يقدّم له أحد الحرّاس الخدمة الاخيرة ويطلق سراح ماجدة. في إنعكاس مختلف لمشهد الفيلم الافتتاحي. اللقطة الأخيرة غامضة بشكل مقصود، مثل كل اللقطات الأخيرة في أفلام جراي، ولكن بالنسبة لي تبدو متفائلة إن لم تكن حلوة ومرة bittersweet: إحدى الشخصيات تملك فرصة لبدء حياة جديدة، وحياة أخرى توشك على الانتهاء، أو كما تقول إيفا: "الشخص الذي جعلني أعاني، يعاني الآن من أجلي. تعلّمت التسامح".



الفيلم: The Immigrant
إخراج: James Gray
إنتاج: 2013


5‏/2‏/2015

"يومان وليلة".. الشجاعة من أجل الوجود





الطريقة الوحيدة لوقف البكاء هي القتال من أجل وظيفتك" يقول مانو (فابريزيو رونجيوني Fabrizio Rongione) لزوجته ساندرا (الرائعة ماريون كوتيار Marion Cotillard) في الفيلم البلجيكي "يومان وليلة". ساندرا، التي كانت في اجازة مرضية من عملها في مصنع لألواح الطاقة الشمسية بسبب معاناتها مع الاكتئاب، على وشك العودة إلى عملها عندما تتلقى مكالمة هاتفية –الفيلم يبدأ مع رنين الهاتف- تعلمها بأنه ما من وظيفة يمكنها العودة إليها. زملائها في المصنع صوّتوا لصالح حصولهم على مكافأة بدلاً من استعادتها لعملها. بمجرد أن تضع ساندرا سماعة الهاتف، تقول لنفسها "يجب ألا تبكي". ولكنها تبكي، وبغزارة. تتحطم رباطة جأشها كآنية زجاجية تتكسّر.

يبدو ذلك تمهيداً مألوفاً لمن يتابع عمل الأخوين جان بير ولوك داردان Jean-Pierre & Luc Dardenne، صاحبي "الوعد La Promesse" (1996) حيث واقع المهاجرين البائس في بلجيكا الجميلة،  "روزيتا Rosetta " (1999) وسعفة كان الأولى عن حكاية تلك الفتاة التي تسعى للحصول على عمل وحياة طبيعية بعيداً عن الفقر. في 2002 ينجزان "الإبن The Son" حيث يقابل الأب قاتل ابنه في ورشة للنجارة، وفي 2005 مع "الطفل L'enfant " الذي يبيعه أبوه. إلى المهاجرين مرة أخرى وحلم الحياة الأوربية في "صمت لورنا The Silence of Lorna " (2008) وصولاً إلى الابن الذي تخلى عنه أبوه في "صبي الدراجة The Kid with a Bike " (2011). أجواء يحيطها الفقر والعوز والتفكك الأسري وحلم الوصول، هي ما يعمل الأخوان في إطاره طيلة مسيرتهم السينمائية التي تابعت، وبشكل استثنائي، حكايات فقراء أوروبا. "يومان وليلة" يتابع تلك المسيرة الشهمة لاثنين من طليعة السينمائيين المخلصين للسينما الواقعية والاجتماعية. هما المثال الحديث الذي كان يمكن أن يكونه المخرج الكبير كين لوتش Ken Loach لو استمرّ في العمل مع سيناريوهات جيدة وأبدى إهتماماً أكبر بالشخصيات النسائية في أعماله. الجديد في هذا الفيلم هو تخلي "الداردانز" عن بعض من أسلوبهم الخشن لصالح آخر أوضح وأكثر أناقة في السرد والجمالية والأداء ولا سيما مع وجود ماريون كوتيار. التصوير بالكاميرا المحمولة كالمعتاد، وبأسلوب مينمالي حدّ التقشف. يستمدّ سحره من الضوء الطبيعي والتكوين المتقن. وكالمعتاد في وفائهما للصوت الموضوعي للفيلم، يكتفي شريط الصوت بالجوّ العام من دون موسيقى مؤلّفة سوى التي تأتي من داخل المشاهد. كوتيار، إلى حد كبير، الممثلة الأكثر نجومية التي تعمل تحت إدارتهما. كانت مهمتهما كما أشارا "أن يوصلاها إلى مستوى معين تصبح فيه إمراة عادية"، وقد نجحوا في ذلك إلى حد بعيد، رغم أن "العادية" ليست الكلمة المناسبة حين يتعلق الأمر بماريون كوتيار، التي من جانبها فعلت أقل القليل كي تبدو تلك المرأة التي قد لا تعيرها اهتماماً اذا قابلتها في الشارع.

كعادتهم في كل أفلامهم، صوّر الداردينز الفيلم في لييج Liège، الاقليم البلجيكي الناطق بالفرنسية، حيث كانت نشأتهما. في تلك المحيطات الإجتماعية الصغيرة والمغلقة على نفسها، تتابع الكاميرا ساندرا في سباقها –في الويك إند- لاقناع زملائها بالتصويت لصالحها وابقاءها في وظيفتها. التصويت الجديد سيتم في أول يوم عمل من الأسبوع الجديد: يوم الإثنين. هذه المرة بدون تهديدات رئيس العمال (يقوم بدوره أحد أضلاع الثلاثي التمثيلي المعتاد مع الأخوين، أوليفيه جورميه Olivier Gourmet). أغلبية العاملين يجب أن يصوّتوا لصالح ساندرا بدلاً من حصولهم على الألف يورو. الحوار يتكرر، من بيت إلى بيت تذهب ساندرا وهي تحارب كل نية لجسدها في أن يبدو متسولاً، رغم أنه -وللسخرية المريرة- هو ما يجب عليها فعله لاستجداء التعاطف من زملائها كل بدوره. السيناريو لا يترك فرصة للملل فهناك مستقبل على المحك. كل محادثة تكون مختصرة، مسرحية من فصل واحد، القليل مما يقال ولكن هناك الكثير للتفكير فيه. مثلما استيقظ جريجوري سامسا ذات صباح في رواية فرانز كافكا ليجد نفسه قد تحوّل إلى صرصار، يرمي الأخوان شخصياتهم في وجوهنا دون تمهيد. بشر من لحم ودم، باطلالات دالة على عوالمهم نتعرّف عليهم ونتوّرط في مأزقهم الحياتي. نرى أطفال حديثي الولادة، زيجات فاشلة وعلاقات مضطربة، مياومين في وظيفة ثانية لتحسين الدخل. نرى أمل وخوف، وقاحة وشهامة، اندفاع ودفاع. إذلال ساندرا وعدم راحة زملائها حاضرين دائماً في ذهن المتفرج.

"يومان وليلة" فيلم عن الواقع الذي نحياه يومياً والعالم الذي نعيش فيه، وكيف جعل كل واحد منا وحيداً، خاصة في العمل. والذي، على نحو متزايد، يتم اعتباره أو يُطلَب منا إعتباره كغرض الحياة الوحيد. تقول ساندرا أنها تريد العمل وليس "وحيدة تعيش على الاعانة" (Alone on the dole). ولكن احتمالية عودتها للعمل لا تطاق بالنسبة لها أيضاً. فكيف ستواجه –يومياً- كل هؤلاء الذين ضيّعت عليهم المكافأة المالية. مصحوبة بزجاجة مياة معدنية وحبوب الزانكس Xanax لتمرير كل الساعات الثقيلة القادمة، ولحظات اللقاءات المضطربة بزملائها. ليس لديها إتحاد نقابي للدفاع عن حقوقها. إذا كان يبدو لك كل ذلك وكأنه تمرين على البؤس لا هوادة فيه، فهو ليس كذلك. ما ينقله لنا الفيلم وشخصياته، بشكل تراكمي، هو نضال نحو الكرامة ومن أجلها.




ساندرا ساندرا

في نواح كثيرة، يمكن اعتبار ساندرا هي تلك الفتاة الصغيرة،روزيتا، وقد كبرت بعد خمسة عشر عاماً من الفيلم الذي حمل إسمها (في ذلك الفيلم لعب فابريزيو رونجيوني Fabrizio Rongione دور صديق روزيتا). ساندرا في المحطة الأخيرة من كفاحها ضد اكتئابها، تصطدم بخبر صاعق عن فقدانها لوظيفتها. "لا أستطيع التوقف عن البكاء" ساندرا تقول لنفسها أثناء سيرها في منزلها. هاتفها يرن وهي تحتاج حبوبها المهدئة. ساندرا ليست ضعيفة ولكنها خائفة من ضعفها. رغم قلة الحيلة والعجز عن الفعل، يقنعها زوجها وزميلتها جولييت، بمحاولة أخيرة لانقاذ عملها. عندما تلتقي رئيسها للمرة الأولى تبدو كما لو كانت تنكمش خوفاً من الكاميرا، تحاول الاختباء في حضورها. ما يبعد "يومان وليلة" عن كونه مجرد فيلم آخر عن امرأة مأزومة اقتصاديا واجتماعياً هو أن الداردانز أيضاً، وبمهارة، يقدمان بورتريهاً لزواج على حافة الهاوية. بعد رحلة متعبة، نفسياً وبدنياً، في اللفّ على بيوت زملائها، تصل ساندرا إلى لحظة تسرّ فيها إلى زوجها أن يتركها لحالها، تظهر حالتها البدنية السيئة في لقطة ثابتة في السيارة حيث نلاحظ معاناة ساندرا في أخذ نَفَسها لتبعد رأسها عن الكاميرا وتخرجها من نافذة السيارة إلى الهواء والضوء. مثل تلك الوقائع الفيزيقية (المشي، النبضات، الدفعات، الأجساد النابضة بالحياة) يجعل متابعة الحدث مثيراً ويؤشر إلى صياغة ميلودرامية محسوبة بدقة. وبينما نلاحظ الحركات المشتتة لإيميلي دكوان Émilie Dequenne في دور روزيتا، نجد تكثيفاً معاكساً في أداء كوتيار لشخصية ساندرا: مؤطرة في ذاتها ومتقلصة لداخل صدفتها الذاتية، صوتها يظهر بالكاد، كأنها تتكلّم همساً. ساندرا تعتقد بأنها لا شيء "I'm nothing. nothing at all" وإذا وضعنا زوجها المحب جانباً، فهناك القليل جداً في العالم يمكن أن يغير اعتقادها عن نفسها. يعادلها في الأداء رونجيوني: في مساحة تمثيلية أقل ولكن بمعالجة بارعة، يتجسدّ أمامنا ذلك الحب الكبير الذي يكنّه لزوجته التي يدفعها للخروج للعالم. استخدام تلك الاشارات الفيزيائية لتحديد العلاقة بين الزوجين (رغم عدم ممارسة الجنس) هو حيلة ذكية جداً لم أختبرها في أي من الأفلام التي قاربت مؤسسة الزواج. حين تصل ساندرا ليد مانو أثناء قيادته للسيارة فهي تقدم بذلك الفعل البسيط تكثيفاً لشعور الحب الذي ترفض ممارسته منذ شهور. هذا بعد لقطة أمامية نادرة للإثنين معاً على مقعد عمومي في إحدى الحدائق، يتشاركان الآيس كريم في ضوء الشمس، ثمة طائر ياتي صوت تغريده من خارج الكادر.
 ساندرا: أتمنى لو كنت مكانه
مانو: من؟
ساندرا: ذلك الطائر الذي يغنّي





الفيلم: Deux jours, une nuit
تأليف وإخراج: Jean-Pierre & Luc Dardenne  
إنتاج: 2014