19‏/8‏/2015

" Only Lovers Left Alive": الخلود مملّ، الحُبّ باقٍ


لم نعد موجودين كمؤلفين مسرحيين أو ممثلين ولكن كمحطات لشبكات متعددة […] مشاهدين سلبيين لمشهد فارغ  لا يحدث فيه شيء ومع ذلك يملأ مجال رؤيتنا" – جان بودريار (نشوة الإتصال، 1987) 

دعونا نقولها بصراحة: جيم جارموش/ Jim Jarmusch مخرج رائق أو كما يقول التعبير الإنجليزي:cool، وهذا الإدّعاء يدعمه بسهولة حقيقة أنّه يمتلك ذلك الشعر الأبيض المنتفخ على رأسه ويرتدي سترات دنيم (denim) وعادة ما يتناول الغداء مع باتي سميث. ومع ذلك حين يأتي الحديث لمناقشة أفلامه، يبدو مُخلّاً اختزالها في صفة من أربعة حروف تعادل في مضمونها توقعات الأرصاد الجوية أو اسطوانة موسيقية لصديق موقّعة من مطربه المفضل. وخلافاً لتلك الأمثلة المقبولة بشكل عام لتعريف صفة "الكول" فإن أفلام جيم جارموش مكتوبة بذكاء ومشيّدة بقدر كبير من التفصيل بصريًا وبنائيًا ودائمًا مع انتفاء ذلك الاحساس –حين يكلّل بالنجاح- بأن النسخة النهائية تمّ انجازها بمشقّة كبيرة ولكن بطريقة أشبه بدورة الحمل والولادة (باقتراض تعبير جارموش نفسه للجنس والولادة ومقارنتها بعملية صناعة الأفلام). في صورتها النهائية، تبدو أفلامه كألبومات مصوّرة مكرّسة لمفهوم ما (concept) تجمع مصفوفة من الأفكار المتخاطبة مع بعضها البعض، بدون الاحساس بأن المنتج النهائي عبارة عن خطبة أو عِظة سينمائية مملّة يلقيها جارموش في ردائه المخملي وسترته الدنيم ونظارته الشمسية وقد تقمّص دور واعظ كَنَسي.

 الجغرافيا البشرية لسينما جيم جارموش كانت دائما واحدة من أكثر العوالم الكوزموبوليتانية التي يمكن أن تخرج من السينما الامريكية. مبكرا جدا من قبل أن تسمح ميزانية أفلامه بعبور المحيط الأطلنطي؛ قرّبه فضوله إلى التيارات الأجنبية التي شكّلت بلاده وأبعده عن المناطقية المتناقضة في السينما الأمريكية (أفلام المقاطعات أو المناطق منتشرة في السينما الأمريكية وريتشارد لينكلاتر مثال جيد على ذلك التيار). آلي المتسكع في Permanent Vacation (1980) يريد الانتقال إلى باريس (فقط ليقابل في نهاية الفيلم معادله الباريسي الذي يريد الانتقال لنيويورك)، المجرية ابنة عم ويلي في Stranger Than Paradise (1984)، الايطالي الغريب في Down By Law (1986)، الزوجين اليابانيين والمرأة الإيطالية والإنجليزية  في Mystery Train (1989)، وهلم جرّاً، سينماه يسكنها المهاجرون والأجانب. ما أنقذه جارموش من المطابقة الأمريكية الإلزامية هو جوهرها، ذلك المزيج من طفل السباق الذي يخشي من شوائبه العرقية ومن ثم يتركّز هدفه على تأكيد تفوقه المزعوم عن بقية خلق الله. إنه بالضبط الترجمة السليمة لافتراض السينما الامريكية أن أفلام جارموش كانت تشرب من معين آخر طيلة حياتها. وجد جارموش جمال البلاد البعيدة في تفاصيلها الصغيرة وشخصياتها الهامشية، حتى حين يزور أرض ميلاد الأساطير والخرافات (Mystery Train). النجاح الذي وجده جارموش في أوروبا لم يكن مقصودا يوما أو مروّجا له ولكنّه أتى كنتيجة منطقية لاختياره ملاحظة وتصوير بلده بعيون شخص أجنبي، وبدلا من تمجيد مثاليتها (المعلومة بالضرورة للعالم كلّه) قام بتشريح عيوبها الرائعة بعناية تبتعد عن السنتمنتالية. لقد وقف بعيدا على حواف خارطة الأيقنة الأمريكية (American iconography) وفكّر طويلا في الأيقونات كأنداد وليس كآلهة.


تلك الهامشية في التعامل والتلقي لأفلامه تبدو مدخلا مناسبا للحديث عن المخرج وفيلمه الأحدث " Only Lovers Left Alive"- يمكن ترجمته إلى "وحدهم العشّاق بقوا أحياء"- والذي بداية من عنوانه يمكن الاحساس بحسّ صوفي يحضر في الأجواء، وقد ذكر المخرج الشاعر الفارسي جلال الدين الرومي في أحد الأحاديث الصحفية. على الرغم من اكتسابة الاحترام في عالم السينما الفنية؛ فقد نأي جارموش بنفسه عن القلق التنافسي مع أقرانه ومعاصريه والذي أصبح سمة أساسية (وبغيضة) تميّز كل جانب من جوانب الثقافة المعاصرة. هناك اقتضاب ربما لم يكن مقصودا وتلميحات بيوغرافية في احدث أفلامه. فامبيرز "وحدهم العشاق" مخلوقات ثقافية غير متوافقين مع الوقت الحاضر وضوء النهار. يعيشون حياة ليلية ساكنة  لا تمت بصلة لتلك الاضواء التي تسلّط على المشاهير في محاولة لاخفاء خوائهم بصورة مؤقتة، يعتمدون على دماء طازجة من أجل البقاء على قيد الحياة ولكن يبدو أنهم يعيشون في ذاكرتهم حصرا فهم ميتون تقريبا لأنه لا يوجد لهم مكان في الوقت الحاضر. مفارقتهم الأكثر وضوحا هي حاجتهم الإلزامية للتفاعل مع ذلك العالم الغريب عنهم. فامبيرز جارموش مشابهين للمخرج نفسه، جاؤوا من زمن كانت فيه عُلب الثقافة الشعبية هي المكان "الكول" الذي يجب على الجميع التواجد فيه. المتعهّد الموسيقى الشاب الذي يزوّد آدم بأي شيء يحتاجه، لا يستطيع تفهّم ابتعاد ذلك الفنان العبقري عن الأضواء. كونك خارج عن المألوف (outsider) لم يعد موضة، لقد أصبح شيئا من الماضي. هل علاقة حُبّ لا مبالية شيئا من الماضي أيضا؟ هل مازال بامكاننا حُبّ أي شخص غير هؤلاء الذين يشاركوننا ذواتنا بداخلهم؟. آدم وحواء، مصّاصي دماء غارقين في الحب منذ قرون على الرغم من افتراض وجود فترات انفصال بينهم (واحد يعيش في ديترويت والآخر في طنجة). شاعرين بالملل من حياة كلّ منهما ومطاردتهم اليومية للدماء يتفقا على اللقاء في ديترويت، مدينة عدن الصناعة الأمريكية في القرن الـ 20.
"وحدهم العشاق" فيلم عن ماذا نقول وماذا نفعل حين يكون كلّ شيء حول الطرف الآخر قد تمّ اكتشافه، تلك النقطة في العلاقات نادرًا ما يتمّ تمثيلها في الأفلام؛ ناهيك عن الاحترام والرومانسية التي يتعامل بها جارموش هنا مع تلك الفكرة، ويحدث أيضا أن يكون هذا في فيلم عن مصاصي الدماء (vampires) رغم أن كلمة فامبير لم تذكر مرة واحدة طيلة دقائق الفيلم الـ 123. جارموش علّق على ذلك بأن الفامبيرية ليست مركز اهتمام الفيلم ولكنها نقطة الانطلاق في استكشاف الصداقة الرقيقة والمصونة على مدار سنين طويلة، وباختياره لقصة العاشقين الأبديين فإنه يأخذ تلك الفكرة إلى نقطتها الأبعد. من هذا المنطلق فلا يمكنني سوى الشعور بأن هذا الفيلم ضريح تم بناؤه خصيصا لاحتواء تيلدا سوينتون/  Tilda Swinton. شخصية حواء تحديدا تمت كتابتها وسوينتون في بال جارموش، وقد كان للممثلة دورا فعّالا في رؤية الفيلم ورحلته التمويلية التي استغرقت 7 سنوات لانجازه. حواء، كما أدّت دورها سوينتون، تحزم حقيبتها فقط مع رواياتها العزيزة -والتي تتراوح بين دون كيشوت وروايات عبير- وتترك "عُشّها" في طنجة المغربية  للذهاب إلى حبيبها الواهن آدم (والذي يلعب توم هدلستون/ Tom Hiddleston دوره بطريقة هزلية رائعة). تبدو حواء مثل إنذار إلهي، تقود حبيبها بعيدا عن الصخور وتؤكّد احساس كلا منهما بمثابة وقود الحياة لبعضهما البعض بالقدر الذي يحتاجان إليه للدماء (دعونا لا ننسى أننا نتحدّث عن حبيبين من مصّاصي الدماء). التوازي الجميل بين لقاؤهما الأول على الشاشة حيث تعود حواء برأسها في إنتشاء بينما يستنشق الحبيبان الهواء في المسافة بين شفتيهما، يعيد التذكير بلقطات ردّ الفعل السابقة للأجواء الاحتفالية الصاخبة المصاحبة لطقس شرب الدماء من الكؤوس الزجاجية. الفيلم الذي تدور أحداثه بين ديترويت وطنجة، يستكشف الفضاء الذي يخلقه الانسان في الحب وفي نفس الوقت فهو عن الحميمية (intimacy)، تغذية كل واحد للآخر.
الكلمة التي تتبادر إلى الذهن من مشاهدة هذا الفيلم هي "الصخب"، سواء كان ذلك بفعل انتشاء أشبه بيوفوريا المخدرات أو إيجاد مسرح جميل مهجور أو الرهبة من إعادة إكتشاف الحبيب منذ مئات السنين. تصميم الأزياء (costume design) في الفيلم جميل ولا يخلو من تأثر ديني، خصوصا في رداء حواء الذهبي المطرّز الذي تلبسه في رقصتها المنتشية على أنغام الموسيقى، بين كتبها التي تؤطر زوايا الكادر، وكاميرا عين الصقر تلتقطها من أعلى. هذا المشهد الافتتاحي يمكن اعتباره إجابة جارموش على البورتريهات المرسومة في عصر النهضة الأوربي للزوجين آدم وحواء، حواء تدور فى ردائها بين كتبها بينما آدم مستلقيا على أريكته والعود في يده.
"وحدهم العشّاق" لن يكون فيلمًا جارموشيًا إذا لم يعالج مسألة وجودية واحدة على الأقل، والمسألة هنا يمكن تلخيصها في سؤال "ما الذي نعيش من أجله؟". الفيلم من ناحيته أجاب عن ذلك في العلاقة بين آدم وحواء اللذين صمدا معا خلال عملية الهجرة (الزمانية والمكانية) التي عانياها في الفيلم وعبر السنوات الطويلة. ديناميكية الفيلم تأتي من الفكرة المثالية: نحن vs هم، العاشقين مقابل العالم كلّه، والرومانسية الأكثر من المعتاد في أفلام جارموش ذات النبرة العبثية والساخرة، تلك الرومانسية تأتي كنتيجة طبيعية لتبنّي الفكرة المثالية. هذا السعي من أجل تمرير الحياة جنبا إلى جانب مع بقية العالم هو مصدر وجودية الفيلم ولكنه أيضا جوهر كوميديته. ميا فاسكوفيسكا/ Mia Wasikowska تلعب دور الطفلة الفظّة باتقان يمنح المشاهد تسلية كبيرة، وأنتون يلشين/ Anton Yelchin يجد ضالته في دور ذلك الشاب القادم من خارج هذا العالم (عالم الفامبيرز) ويريد أن يكون محبوبا فيه مثله في في ذلك كحال طالب من الصف الأدني يسعى لاقامة علاقات مع مجموعة من الطلاب الأكبر سنّا. جيفري رايت يظهر على استحياء في دور الطبيب والمزّود للدم وقد لعب الدور بتلك السلاسة من التكتم والعناد العارض في مواجهة عميل غامض من الفامبيرز.

 فيلم شخصي؟
الكثير من تشخيص حواء والنبرة في علاقة العاشقين واهتمامهما بالموسيقى والعلوم والآداب، كلّ ذلك قادم من جارموش وسوينتون وينعكس عليهما أيضا. الممثلان المعتادان على العمل مع المخرج، جون هارت/ John Hurt وجيفري رايت/ Jeffrey Wright موجودان هنا أيضا وهو ما يذكّرنا بقول المخرج في احد المؤتمرات الصحفية : "تلمَُس الطريق في الظلام بصحبة الأصدقاء أفضل على الدوام من تلمَُس الطريق وحيدا في الظلام". يبدو الفيلم "شخصيا" إلى حد بعيد مع جارموش الذي يستثمر ويقترض قدرا كبيرا من حياته لتقديم عالم العشّاق على الشاشة. هناك على أحد حوائط شقة آدم، صور كثيرة لشخصيات يعتبرهم آدم "أبطاله"، حائط الأبطال هذا دعى بعض المهتمين الشغوفيين بعالم الفامبيرز وجيم جارموش لمحاولة فكّ شفرة هذه الصور وأصحابها، ويمكن لنا اكتشاف مدى التشاركية بين جارموش وآدم  من خلال هذا الحائط. فرقة جارموش الموسيقة " SQÜRL" عملت مع المؤلف الموسيقى جوزيف فان فيسيم/ Josef Van Wissem لخلق مزيج روك ضوضائي (noise-rock) يعمل كموسيقى تصويرية لقصة العاشقين، والموقعين اللذين قدّمهما الفيلم (ديترويت وطنجة) تمّ اختيارهما بناء على نداء داخلي لدى جارموش. اللقطات التي تصوّر الخراب الذي حلّ بديترويت (أكبر مدينة صناعية في أمريكا سابقا) جميلة بشكل لا يمكن إنكاره ومثّلت خلفية مناسبة لآدم، في مقابل الهدوء والأزقّة المتعرّجة في طنجة والتي عادة ما تعبرها حواء للعثور على مبتغاها. هذه هي المرة الأولى التي يصوّر فيها جارموش بالديجيتال ورغم ذلك لم يفقد الفيلم شيئا من قيمته نتيجة هذا الاختيار، لا سيما مع ذلك الدفء المتفرّق  للإضاءة الداخلية بواسطة يوريك لو ساول/ Yorick Le Saul والحضور الطاغي للمكان الذي يبدو مألوفا ولكنه خاليا كذلك، يصدّر احساسا بالعيش في ديوراما (diorama) أكثر منه مكانا طبيعيا للعيش.
مساهمة جارموش في تطوير ميثيولوجيا الفامبيرز تأتي في شكل قفّازات يرتديها مصّاص الدماء وتُخلع من قبل مُضيفه لكن يمكن لنا الجدال بأنه طوّر المسثيولوجيا لدرجة أن الفامبيرز مطلوب منهم أن يكونوا جذابين ومثقفين بما يكفي للنظر باستعلاء واستهزاء لهؤلاء الزومبيز (البشر) من حولهم الذين يساهمون بنشاط في إهمال ثقافة عاش خلالها (الفامبيرز) وأحبوها عبر السنين. من الصعب معرفة ما إذا كان آدم هو الذي يتحدّث هنا ام جارموش، ولكن  افترض أنه إذا قدّر لك العيش مئات السنين (أو كما في حالة جارموش، عملت في صناعة السينما لمدة 30 عاما) ألن يكون لسان حالك مشابهًا لذلك الكلام؟. جارموش يرتدي استعلاءه بفخر  في هذا الفيلم الذي يبدو في المشاهدة الأولى مثل ردّ موجز وسوداوي على فيلم وودي آلن " Midnight in Paris". آدم يحكي عن علاقات مع كبار الموسيقيين الذين عرفهم كفرانز شوبرت الذي أهداه جزءاً من سيمفونيته "أداجيو". كريستوفر مارلو المستوحى من الكاتب الإنجليزي كريستوفر مارلو (1564- 1593) ينسب أعمال شكسبير لنفسه، لكنه يعبر عن ندمه  لأنه كتب "هاملت" قبل أن يتعرّف إلى آدم. (جارموش نفسه يتبنى نظرية التشكيك في أصالة شكسبير في الفيلم، وعبّر عن ذلك في مقابلة أجريت معه). الإشارات المرجعية هنا تتراوح بين بايرون/ Byron المتعجرف والأطباق الطائرة والنظرية النسبية والهندسة الكهربائية والثلاثينيات ورقصات السوينج. المدى الكبير للمراجع التي يأتي بها جارموش مرعب وقد حدا ذلك ببعض النقاد لوصف ذلك بأنه "دراسي" بعض الشيء. ولكن يمكننا الاعتقاد بأن كلّ تلك الاشارات جاءت موفقة وباعثة على المرح، وإذا تمت قراءة الفيلم كبورتريه شخصي فضفاض للمخرج فإن القول بأن تلك الاشارات جاءت بدون قصد معيّن أو نية واضحة مخالف للزعم بأنها استعلائية أو دراسية. من هذا الجدال نخلص إلى أن أفلام جارموش أحيانا ما تمثّل للبعض هلاما فكريا لا يمكن القبض فيه على حبكة درامية وبالتالي لا يسمح لهم بالدخول إلى "موضوع" الفيلم، مثل فيلمه السابق "حدود السيطرة/ The Limits of Control "، ولكن حين تُضبط التوليفة –مثلما هو الحال في "وحدهم العشّاق"-  فإنه ينتج احساسا بالجشتالتية (Gestalt): يصبح الفيلم أكثر من محصلة تلك الأفكار المتشابكة والتفاصيل الفضفاضة التي يحتويها.
قرب نهاية الفيلم يلمح آدم وحواء عاشقين صغيرين يتعانقان، وفي محاولة أخيرة للبقاء يقرران الهجوم عليهما وشرب دمهما، كأنهما بذلك الفعل يرغبان باكتساب الحيوية والشباب الساريين في عروق العاشقين الصغيرين لمداهمة الموت الرابض بالجوار. إيقاع الفيلم المتأنّي (وليس البطيء) بحواراته المتشعبة وفترات الصمت والموسيقى الزاخرة التي تتخلّل الرؤية القوطية لثقل الزمن بحسّ ميلانكولي  وحنين إلى الحيوات الماضية والجنة المفقودة، ليس غريبا على جارموش ولكنه يأتي بصورة أكثر إلحاحا. كذلك البحث عن الزمن ومحاولة القبض على ايقاع الحياة لتقديمها على  الشاشة كما هي في الواقع، كانا دائما شاغلين أساسيين للمخرج منذ فيلمه الأول الذي تتالت بعده الشخصيات المتسكعة والهائمة، المسافرة والباحثة، مثل المخرج تماما، عن شيء غامض لا تعرف ما هيّته، ودائما "نحن ننشغل بما لا نعرفه".
على نطاق أوسع فقد يشعر المشاهد أن الفيلم يطرح أسئأته الخاصة عن دور الفن والفنان في العالم. خلال السنين وفي كل عصر ظلّ هناك من يرى نهاية الثقافة، ولكنها لا تزال مستمرة. كريستوفر مارلو (كما يقوم بدوره جون هارت) بمثابة امتداد لذلك السؤال من ناحية: من الذي نضرّه  -أو للصراحة الخالصة ممن نمص الدماء- لنصنع "فننا"؟ وهل استمرار مسيرة الفن خلال التاريخ غير طبيعي؟. كريستوفر مارلو يموت في النهاية ولا يقدّم جارموش أية اجابات، وحتى من غير الواضح في الحقيقة أنه فكر في مثل تلك الاسئلة، ولكن هناك اقتراح بضرورة تحرير العلاقات والاتصالات الانسانية كفترة راحة أو مُهلة من الزخم الناتج من محاولة دفع العلاقة للأمام باستمرار. إذا كان ذلك يبدو مثاليا للغاية بالنسبة للمشاهد، فهناك الكثير من الطرائف الكئيبة التي سيقابلها في هذا الفيلم.


الفيلم: Only Lovers Left Alive
تأليف وإخراج: Jim Jarmusch
سنة الإنتاج: 2013

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق