2‏/8‏/2015

مونوكروم الألفية الجديدة (2): ثلاثة أفلام أوروبية


Les amants réguliers (2005)

"هؤلاء الذين يصنعون نصف ثورة، لا يصنعون شيئا سوى حفر قبرهم"

المخرج الفرنسي فليب جاريل/ Philippe Garrel، الذي صنع في العشرين من عمره فيلما (فُقد حاليا) عن باريس أثناء تظاهرات مايو 1968 الشهيرة، يعاود زيارة تلك الفترة في تجربة سينمائية ملحمية وحميمية.
تتمحور القصة حول علاقة الحب بين فرانسوا، وهو شاعر في عشرينياته يقوم بدوره لويس جاريل (ابن المخرج (لعب دورا مشابها ولكن أقل أصالة في "The Dreamers" لبرتولوتشي) وليلي (الرقيقة كلوتيد هيسم/ Clotilde Hesme)، نحّاتة شابة من أبناء الطبقة العاملة. علاقة مؤطّرة بالانهزامية السياسية وروح التخلّي، ينتقدها المخرج بالاشارة إلى إدمان بطله للأفيون. يضع جاريل خلاصة أربعة عقود من الأفكار والتجارب السينمائية في دراما رمزية بقدر واقعيتها. يؤفلم الثورة/الانتفاضة الشبابية بتجريد مسرحي مبسّط محوّلا إياها إلى حلم يقظة مستعاد. هنا "مايو 68" ولكن بدون سياسة: تدفق للرغبات الشابّة، وتوق إلى يوتوبيا حسّية على الأرض وبالطبع مثل تلك الأحلام تأتي إلى نهايتها في لحظة ما.
على الرغم من استجلابه لفردوس معاش في لحظات عابرة (مثلا، عندما يتابع فرانسوا وريد نابض في عنق ليلي أثناء نومها)، فإن جاريل يؤكّد أن "العالم" الذي جاء بعد الثورة كان ينتمي إلى هؤلاء الناس العمليين بأقدام ثابتة على الأرض وليس الحالمين الذين يظنون أن القائهم زجاجات المولوتوف على أفراد الشرطة سيغيّر العالم ويجعله أفضل. لو أن شخصا آخر قال ذلك الكلام غير المخرج الراديكالي المولع بالجماليات، ربما بدا رجعيا. ولكن ما يجعل جاريل يقول ذلك هو إدراكه الحزين المستخلص من النظر بأثر رجعي إلى ماضيه الخاص وأوهام الشباب وأحلامه الشاهقة.

صُوّر الفيلم بالأبيض والأسود الساحر من قبل مدير التصوير المخضرم ويليام لوبتشنكي/ William Lubtchansky. صور تتقطّر فيها ميلانكولية جاريل ونظرته التأمّلية والرومانتيكية التي تتماس مع تراث السينما الصامتة (كما ينعكس ذلك في مشهد عزف البيانو المنفرد). المسحة الرمادية المضافة للصورة تعطي الشعور ببرودة معدنية، وحين تقوم ليلي -في تحول براجماتي من جانبها- بتحدّي فرانسوا على المضي قدما واستكمال حياته، فإن برودة الواقع الصعب تصبح أكثر وحشية.
بخلاف الأفلام الزمانية (Period films) التي ينصبّ تركيزها على الأزياء والديكور وثرثرة شخصياتها التي تحاول توضيح المزاج الغالب على الفترة التاريخية التي يقدمها الفيلم، يقدّم جاريل ثورته الخاصة وشخصياتها كما عرفها: يقضون السنوات التالية في تغيير لاشيء تقريبا، يداومون على الانتشاء بالمخدرات والاستماع إلى الموسيقى، ثم يموتون. ما من أبهة هنا، فقط صور لشباب بوجوه مزيّتة ومليئة بالبثور، قمصان متعرّقة، وشعور مهوّشة ومرور الوقت البطيء الذي يأتي بالتردد والملل. في 178 دقيقة هي مدة زمن الفيلم، يقدّم جاريل- بأسلوب مينمالي خالص- خطابا حزينا ولا تنقصه النوستالجيا المربكة عن الحب في العشرين، ومحبة الأحلام المستحيلة.

Control (2007)

بيوغرافيا إيان كرتيس/ Ian Curtis المحتفى بها نقديا وجماهيريا وقت صدورها كواحدة من أفضل السير الموسيقية في السنوات الأخيرة، بتوقيع المخرج أنطون كوربجن/ Anton Corbijn في أولى تجاربه في الاخراج الروائي. قبل هذا الفيلم عمل كوربجن في اخراج الكليبات المصوّرة ولم تزل درّته هو الفيديو الطوطمي لأغنية أتموسفير لفريق Joy Division الغنائي، وهو عبارة عن نشيد بصري مصنوع بمزاجية واضحة وتم تسجيله بعد وفاة إيان كرتيس، المغني الرئيسي للفريق (Lead Vocalist)،  بثمان سنوات.

الانفتاح الجميل لموسيقى الفريق الغنائي شكّل الموسيقى التصويرية لكثير من دروب المراهقة المضطربة للشباب الانجليزي، وأفلمة قصة الفريق كان متوّقعا تماما. ولكن هذا التوقّع تحوّل في بعض الدوائر إلى حالة من الخوف لأن قصة الفريق المانشستراوي ورحيل مغنيها الرئيسي خلقا واحدة من أكبر الأساطير في المشهد الموسيقى الانجليزي. فكورتيس كتب وغنّى كلماته التي تشبّعت بتفاصيل حياته الشخصية ومات في الثالثة والعشرين من عمره، ومنذ ذلك الحين تمّ ترسيم صورة "كولتيّة" cult له كبطل مات ميتة مآساوية في سبيل فنه.

يعود إذا كوربجن إلى كرتيس، وينجز فيلما عنه لا يسعي فيه لأسطرة المغنّي الذي لعب سام رايلي/ Sam Riley دوره بالغموض المناسب لحياة متأرجحة بين أضواء الشهرة وثنايا الذات. كورتيس تتم رؤيته كمجرد طفل آخر يحب أن يدخّن في غرفته، يستلقي بملابسه الداخلية، ويتصفّح الموسيقى التي تتحدث الي مراهقته وسخطها المعتاد. سامنثا مورتون/ Samantha Morton هي زوجته الشابة ديبورا، التي تستقيل من حياتها لتجفف ملابسه الداخلية منذ أصبح المغني الرئيسي لجوي ديفيجن.
سام رايلي استطاع أن يصل لجوهر شخصية المغني، وأدائه "الكهربي" أعطي مصداقية لفكرة أن كورتيس كان يغرق عميقا في كل مرة يعتلى فيها خشبة المسرح. هذا الممثل الشاب يظهر الأيام الأخيرة لكورتيس وكأنها جلسة لطرد الأرواح الشريرة، والمخرج بدوره يبدو مؤيدا لنظرية أن ندم كورتيس على زواجه بديبورا في سن صغيرة كان مصدر شغفه الوحيد.


الفيلم مستوحى من كتاب ديبورا كورتيس "لمس من مسافة بعيدة". استخدام مذكرات الشخص الأقرب لايان كورتيس كأساس للفيلم سمح للقصة بحسّ من المصداقية غالبا ما غاب عن السير الموسيقية لفرق أخرى. تصوير كورتيس في الكتاب ليس كواحد من آلهة الروك، ولكن شاب مع مشاكل داخلية ونوبات صرع وصعوبات بفعل المخاوف المالية ومهنة تأفل بينما تبدأ في الازدهار. والنتيجة النهائية خليط حزين وقبيح من حياة مربكة ومُعبّر عنها بصراحة.
هناك متواليات تبدو كما لوكانت أطول من اللازم أو أقل ثقلا وأهمية في اقتراحها للحظات ستصبح مصدرا لأغنية لاحقة، ولكن تلك اللحظات لا تطغى أبدا، فالمخرج وكاتب السيناريو مات جرينهالج يتمكنان من الامساك بحسّ الفكاهة والعلاقة الرفاقية بين أعضاء الفريق. التمثيل جيد وتصوير الفريق جاء موفّقا وما يثير الاعجاب هو أداء الممثلين للأغاني بأنفسهم. ورغم الاشارة لسهولة لعب اغاني الفريق فإن أدائها بذلك الحماس والطاقة والاحساس التي حملها الممثلون لهو عمل رائع يضيف إلي مصداقية الفيلم. سامانثا مورتون قدّمت دورا هجينا من التعاطف والاقصاء والعزلة.. ولكن الأداء الفاصل على الارجح سيكون من نصيب توني كيبيل Toby Kebbell الجمل الحوارية والهزل الصارح وأحيانا الرقيق محجوز لشخصيته بالتأكيد.
بصريا وموسيقيا هناك كثير من الصور الايقونية، لقطات من الحفلات حفل ولقاءات تليفزيونية تتوافق تماما مع أسلوب تصوير الفيلم بالأبيض والأسود. قام المخرج بعمل جيد حين تمكن من اعادة عرض تلك الصور والعروض كلقطات ثابتة ثم تربيطها في بعض الأحيان بسهولة تامة لنسج قصة حياة كورتيس بعد الزواج في ماكسفيلد.
الفيلم يستفيد من عيوبه كذلك؛ فأسوأ شيء يمكن حدوثه هو فيلم سطحي ومتوازن وبنهاية سعيدة. هناك شيئا ما بخصوص قصة الفريق وتراجيديا زواج كورتيس والتي يمكن تخيلها في فيلم من انتاج mtv بتبسيط مفرط وسنتمنتالية فاقعة، ولكن كوربجن في فيلمه الروائي الأول لديه نبرة محايدة تقريبا و الكثير من زوايا التصوير الواسعة التي تعيد إلي الأذهان عنوان كتاب ديبورا.

La morte rouge (2006)

عنوان الفيلم هو إسم مدينة كيبيكية متخيّلة في فيلم ""The Scarlet Claw واحد من سلسلة أفلام المحقق شارلوك هولمز، وهو الفيلم الذي يأتي على بال المخرج الأسباني فيكتور إيريس/ Victor Erice لاستدعائه كأول فيلم شاهده في السينما.
مستعيدا زيارته الأولى لإحدى دور السينما في سان سيباستيان حين كان يبلغ الخامسة من عمره، يستخدم إيريس كليبات مصوّرة وأخبار مؤرشفة ولقطات رقمية ليخلق تأملا رثائيا عن الخيال والواقع، التاريخ والذاكرة، الحياة والموت. بنبرة رقيقة ولكن مكثفة يقدّم نصف ساعة من المراسلة السينمائية الجليلة في تقصّيه لقوة السينما، ومعاناة أمة، ومسار الزمن المستمر والغير رؤوف بالمرة.

 فيما يمكن تسميته قصيد أو مقال بصري؛ يستكشف إيريس ذكرياته مع الفيلم والتاريخ المحيط به. يبدأ مع صالة السينما: بناية ضخمة بمسرح كبير كانت في السابق كازينو، حتى تمّ حظر القمار. يتحدث عن حالة "الأمة" الاسبانية: بلد لا يزال يتعافي من مصيبتي الحرب الأهلية والحرب العالمية الثانية، وكيف أن أهوال الواقع خدّرت الجمهور عن ويلات الشاشة. الأهم من ذلك كلّه يتحدث عن "بوتس": رجل البريد القاتل في الفيلم (يلعب دوره جيرالد هامر/ Gerald Hamer). لفترة طويلة بعد مشاهدته للفيلم، عاش فيكتور الشاب في خوف من سعاة البريد، خوف ساهمت تهكّمات أخته الكبرى المؤذية في تضخيمه. ولع إيريس بالشخصيات المتوحشة يعيدنا إلي "خلية النحل The Spirit of the Beehive " حيث يطارد فرانكشتاين الصغيرة والساحرة آنا تورنت/ Ana Torrent.
عمل رائع ينسج الذكريات والتاريخ وملاحظات شخصية ثاقبة عن قوة السينما والخبرة الجماعية، وحوش الطفولة، الصدمات والخيالات، بالاضافة لاحتشاده بصور ثابتة ولوحات بصرية بليغة بالأبيض والأسود مع موسيقى محبّبة من أرفو بارت/ Arvo Pärt. كل ذلك يجعلنا نتمنى لو أن فكتور إيريس صنع أفلاما أكثر.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق