26‏/4‏/2015

"IloIlo": وقائع منزلية



  قبل عامين؛ أثار المخرج السنغافوري الشاب أنطوني تشان ((Anthony Chen إعجاب العديد من النقاد بعد عرض فيلمه الأول "إيلو إيلو" في مهرجان كان السينمائي والذي نال عنه جائزة الكاميرا الذهبية لأفضل عمل أول ومن يشاهد الفيلم -الذي استمد عنوانه من منتجع إيلو إيلو الفلبيني- لن يجد صعوبة في معرفة السبب الذي يكمن في بساطة الفيلم وعذوبته وأصالته في الوقت ذاته. استمد تشان قصة فيلمه من تجربة شخصية عندما قدمت خادمة فلبينة إلى بيتهم في الفترة من عام 1988 إلى 1997، وقد حضرت الخادمة الحقيقية في العرض التجاري الأول للفيلم. ويجب الإشارة للتشابه الواضح بين الفيلم وأسلوب تصويره والفيلم الياباني Nobody Knows (2004) للمخرج هيروكازو كوريدا.

يبدأ الفيلم بشاشة مظلمة مصحوبة بمجموعة من الأصوات: أطفال يلعبون، بوق حافلة وأصوات أناس بالغين. في باكورته الإخراجية يعيد تشان تمثّل سنغافورة -أثناء الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالاقتصاد الأسيوي في العام 1997- من خلال الذكريات في بيوجرافيا فضفاضة لا تتشكّل بإعادة التمثيل الأركيولوجي بل باستعادة انطباع عام من الطفولة يتم التعامل معه بحساسية تفصيلية واضحة. يتحرّك الفيلم بين أحاسيس عابرة وأحداث ترقم ذاكرة أصحابها؛ من خلال تركيزه على وجهة نظر جيالي (Jia Ler Koh)، طفل شقي ومشاغب ينشغل عن دروسه بقصّ أرقام اليانصيب الفائزة والتمعنّ فيها على أمل فك شفرتها، عادة ما نشاهده صنواً في إطار ما مع قضبان نافذة، حقيبة مدرسة، شاشة زجاجية، أو من خلال تصوّرات نصف متخيلة ناتجة عن ملاحظات جيالى الخاطفة لعالم الكبار من حوله. كوه يؤدي الدور بأصالة مدهشة بتجسيده لذكريات تشان وذلك الارتباك الداخلي لطفولة متأخرة تصبح واعية بتناقضها الذاتي؛ الطفل المزاجي والمشاغب هو نفسه السخي والوفي والمخلص. "إيلو إيلو" يستحضر واقعية الذاكرة المفرطة بمحاكاة المواقف التي تستدعي التجربة، يتجاهل المخرج اللقطات الطويلة (استخدمها في فيلمه القصير السابق) وعوضا عنها يصور بكاميرا محمولة كادراته المشرقة بتفاصيل تعلن عن نفسها بوضوح. لقطات أولى لأذرع جيالي العارية في بيجامة تتصدّرها رسوم كارتونية تدعو المشاهد للتشبّع بتمثيلات ما يراه : سرير قطني نظيف، زي مدرسي زاهي البياض، أرضيات رخامية براقة، طبقة بلاستيكية على مفرش المائدة الدانتيل. يلتقط مدير التصوير بينوا سولير Benoit Soler)) كل من رطوبة سنغافورة اللزجة ووداعتها في ليل داكن الزرقة ويعرضهما من خلال ضبابية مريحة تحجب أحياناً رقة اختيارات الفيلم اللونية. كما أن تصوير سولير الطبيعي واستبعاد تشين للموسيقى التصويرية والصوت الذاتي (أغنية واحدة تُلعب في نهاية الفيلم مؤشرة على انتهاء الاستدعاء) كانا حاسمين في إغفال الفيلم للعاطفية sentimentality التي تقدّم نفسها هنا بوصفها ذاكرة وليس حنيناً nostalgia.


الفيلم أيضاً يتعرّض لتجربة جيالى في التعرّف على نفسه من خلال اخضاعه لنظام هيكلي شديد الصرامة يضبط العاطفة والمودة. تيري (الممثلة الفلبينية Angeli Bayani) خادمة فلبينية تنتقل إلى منزل إحدى عائلات الطبقة المتوسطة السنغافورية-الصينية  لرعاية ابنهما المزعج والذي منذ وصولها يرفضها ويثور عليها، ومن ناحية أخرى تبدأ هذه الوافدة الغريبة في اكتشاف الفواصل العاطفية التي تعزل كل فرد من أفراد العائلة في منطقة محصورة ومحصّنة أيضا من الحوار أو الإفصاح وبحرية عن أزماتها المتراكمة. عدم الاستقرار المالي للأسرة يوتّر الأبوين: الأب تيك (Chen Tian Wen) يلتحق –سرّاً- بوظيفة حارس ليلي بعد تسريحه من عمله كموظف مبيعات، ويعكس الممثل جزعه واضطرابه النافث كبركان ينتظر لحظة الانفجار. والأم هوي (الممثلة الماليزية  (Yann Yann Yeoالحامل في طفلها الثاني تظهر حنانها وازدرائها وأحياناً حقدها في محاولتها لدفع إعيائها واستعادة مكانتها الأمومية والحفاظ على وظيفتها كموظفة عمومية. السياسات الاقتصادية والطبقية تجد مكاناً لها على مائدة مشاكل الأسرة الصغيرة ولديها القدرة على التمكين أو الحدّ من التعبير عن الحبّ بين أفرادها: عندما يسخر أحد زملاء جيالى في المدرسة بقوله أن تيري تظهر له الحبّ فقط لأن أمه تدفع لها فإن جيالى يدفعه بقوة ليرتطم بالجدار ولاحقاً يتم طرده من المدرسة تقريباً. تراقب الكاميرا وجه جيالي من خلال ستائر داكنة يتمتم بكلمات العهد الوطني السنغافوري، يمشي على خشبة مسرح قبالة زملاؤه الجالسون في قاعة المدرسة بزيهم المدرسي، وبينما تقوم مديرة المدرسة بالقاء خطبة عن النظام وضرورة الالتزام به؛ نرى وجه جيالي وقد اكتسته الحمرة والدموع بفعل الضرب بالعصا من أحد مدرسيه الذي –وللمفارقة- كان سبباً في فوزه بأحد جوائز اليانصيب الكبرى.

الربط السياسي بين الشخصي والعام ينعكس من بداية الفيلم حيث نتابع الكاميرا المحمولة تتجوّل بين منازل ملوّنة مكوّمة بجوار بعضها وأسواق ضاجة ووجوه حميمة وإيماءات تتخلّلها لقطات بانورامية ساكنة لميناء سنغافورة وأفقه المجدب. يتقابل الفضاءان حين يقوم جيالى بأخذ تيري لسطح منزلهم المؤسس من قبل مجلس التنمية والإسكان (HDB) ونرى وجودهما الفيزيائي (الجسد) كجزء لا يتجزأ من الطبوغرافيا الحضرية في لقطة مقربة وأخرى بعيدة. من هنا فإن فحص المخرج للأحداث الهامة –ولكن القليلة- من الحياة المنزلية التي تحتل المساحة الاكبر من ذاكرة الطفولة يستكشف العلاقات البينية والتوترات التي تبرز من خلال الفضاءات بين وحول مثل تلك البنى الهيكلية. يؤطّر المخرج بدقة التفاعلات الجسدية الهادئة لممثليه حين تقوم شخصياتهم بوعي وبدون وعي بالتلقى والاستجابة أحدهم مع الآخر. هناك عناية خاصة بالديناميكية الداعمة لعلاقة الأم والخادمة واللتان تقودان توافقات مربكة ومعقدة لصورة الأم عند جيالى. يحاكي تشين الادراك اللاحق للطفل من خلال تفاعلات مختارة بعناية وعذوبة مثل دجاجة عيد الميلاد المقلية التي ندخل حكايتها في البداية من خلال برنامج تليفزيوني يعرض مجيء كتاكيت صغيرة للعالم بعد فقس بيضها يختلط ذلك مع لقطة لظهر جيالي من وراء زجاج مضبب يعيدنا إلى مشهد الفيلم الافتتاحي وينبهنا لاحقاً في مشهد إزالة الجبس عن ذراع جيالى المكسورة. ومثل ارتباط جيالى العاطفي بالدجاجات الصغيرة من أول نظرة حين يقدمها والده كهدية عيد الميلاد؛ توضّح الكاميرا المضببة حركة الأجسام حول مائدة الطعام في انعكاس واضح لمشهد قدوم تيري إلى المنزل فإن النفور من تيري يتحوّل مصدره من الطفل لأمه.



 جزء من قيمة الفيلم هو نزاهته النادرة بالتركيز على تيري كخادمة فلبينية بدون تاريخ معروف. بياني تقوم بأداء أدوار تيري المتناسبة مع أفراد الأسرة الثلاثة والنساء الفلبينيات الأخريات اللواتي تقابلهن في سنغافورة كخادمة الشقة المقابلة، وفي عملها الثاني –الغير شرعي- كحلّاقة في أحد صالونات التجميل، ومع ذلك أثناء مكالماتها التليفونية لذويها في الفلبين ومع سعيها لمعرفة أخبار ابنها يمكن للمشاهد الشعور بتعقيدات مشكلة تأجير الأرحام التي تربض تحت سطح الأحداث. تتكشّف تيري كشخص براجماتي يبحث عن نجاته الخاصة ويمتلك ماضيه أيضاً ولكن روح الفيلم الذاتية لا تنجرف وراء الأحكام المجانية. في واحد من المشاهد الرقيقة والثقيلة في آن يكسر المخرج النظام الواقعي لفيلمه حين يسقط حامل الغسيل في الشارع وتسرع تيري لاعادته لتفاجأ بشخص يسقط منتحراً بقربها، واحد من سكان البناية ذاتها التي تسكنها العائلة. وفي لقطة تالية مقربة نرى الخادمة وهي تعاين معصمها الذي تنطبع عليه آثار محاولة سابقة لها مع الانتحار، في إشارة ذكية من المخرج اختصر فيها تاريخاً من العذابات في لمحة عابرة ولكن امتدادها الجارح يبقى، كذلك تتخلى كاميرا سولير عن واقعيتها وتدخل في "نوبة بصرية" لتدخلنا في تضاريس تيري الذهنية التي يتجاور فيها الموت والحياة، الطمأنينة والفزع.

حين يبتعد الفيلم عن كونه "ذاكرة" يفقد بعضاً من وهجه وفعالية سرده، ومع ذلك ينتعش الفيلم مع نهايته الحسّاسة التي تنقل شعوراً قاسياً بالنضج الذي يحدثه الفراق. جيالى بلباس الكبار يجلس رفقة والده في المستشفى بانتظار استكمال عملية توليد أمه، يشارك سماعات الأذن مع والده لنستمع إلى أغنية تشاركتها تيري سابقاً مع جيالى ولم تعجبه. الآن نسمع الاغنية المصحوبة بلقطات فيديو تظهر ولادة حقيقية للطفل. إدراج الفيديو المنزلي يؤطّر الفيلم كمعارضة أدبية للذكرى، حيث الانطباعات الممتدة التي تنظم الفيلم تبدو كحكايات موروثة تشابه عملية تذكّر ذكريات شخص آخر. عن النجاح النقدي الكبير للفيلم تحدث المخرج عن أمله بان يؤثر ذلك على تغيير نوعية الأفلام المنتجة في سنغافورة (حيث معظم الإنتاج السينمائي إما كوميدي أو رعب) ويشجع القطاعين العام والخاص على الاستثمار في إنتاج أفلام أقل تجارية وتنحو إلى التجريب والفنية. وصف تشان فيلمه بأنه يقوّض الكثير من التوقعات عما يمكن ومالا يمكن فعله في سنغافورة، ولكنه ينجز فيلماً سنغافورياً بامتياز، باستدعائه لأحاسيس محددة وتضفيرها بالراهن المحلي وتعقيداته، ومقاربته لتقاطعات النظم الاقتصادية والطبقية مع التجربة الذاتية والعلاقات الشخصية، وكأن الفيلم يأخذ ذاكرة سنغافورة الموروثة ويقدّمها لجيل جديد. جاذبية الفيلم الزائدة تأتي من إتصاله وتركيزه على أصداء عادية ومألوفة لتجربة الطفولة في دورة تذكُّر إنطباعية تجعلنا نحن كمشاهدين سنغافوريين أيضاً.


مخرج الفيلم مع مربيته الحقيقية






24‏/4‏/2015

شكسبير في السينما المصرية



منذ نشأة السينما المصرية في 1907 والعامل الاجنبي الوافد كان حاضرا متمثلا في اختراع الاخوين لوميير أو مشغليه من الجاليات الاجنبية في مصر، وبسبب حداثة التجربة الأدبية العربية في ذلك الوقت فإن السينما المصرية بدأت في تمصير المحتوى الأدبي الغربي مع حركة بعض الفنانين المصريين للدراسة في اوروبا وتعلم الفنون المختلفة، وهكذا اعتمدت السينما المصري في سنواتها الأربعين الأولى على الاقتباس الأجنبي (نصوصا وأفلاما على السواء) بشكل كبير. ويظلّ المصدر الأهم لكل الباحثين عن مصادر إلهام الكثير من الأفلام المصرية المقتبسة، كتاب "الاقتباس في السينما المصرية"، لمؤلفه الناقد محمود قاسم الذي يقدّم فيلموجرافيا قيّمة للأفلام المصرية المقتبسة من أصول أجنبية في فترة تمتد بين عامي ١٩٣٣ و٢٠٠٢. ولعل الإسم الذي سيقابله القاريء كثيرا هو إسم ويليام شكسبير.
"شكسبير معاصرنا". "شكسبير صالح لكل زمان ومكان". "شكسبير مواطن عالمي". وغيرها من الجمل التي يؤمن بها النقاد والجمهور على حد السواء لتؤكد على خلود ابداع الكاتب الانجليزي وتجاوزه لحدود اللغة والجغرافيا. شكسبير الذي ترجمت أعماله إلى كلّ لغات العالم تقريبا، لم يفت السينما المصرية أن تعود إليه في أكثر مناسبة بل وتغرقه في بيئتها بطريقة قد تبدو متطرفة وكوميدية أحياناً.
 نستعرض معكم الأفلام المصرية التي اقتبست أعمال شكسبير وجعلت من شخصياته معلمة ومقاول وباشمهندش وبيه.

روميو وجولييت




قصة الحب المستحيلة بين مراهقين من عائلتين متصارعتين لا يجدان حلّاً سوى اصطناع الموت من أجل الهروب فيتحوّل ذلك الموت إلى حقيقة، قصة أغرت العديد من السينمائيين المصريين فظهرت أفلام:

"ممنوع الحب" من إخراج محمد كريم عام 1942، وبطولة محمد عبد الوهاب ومديحة يسري . وتمت معالجة القصة ضمن اطار كوميدي مرح ونهاية سعيدة لا يموت فيها العاشقين.  وقد تضمّن الفيلم أغنيتي "بلاش تبوسني في عينيا"و "يا مسافر وحدك".

"شهداء الغرام" من إخراج كمال سليم عام 1944، وبطولة أنور وجدي وليلى مراد. وهو معالجة وفية إلى حد كبير لروح النصّ الاصلي حيث جرت الأحداث في العصر المملوكي، كما أنه أبقى على النهاية المأساوية لبطلي القصة

"البدوية الحسناء" من إخراج إبراهيم لاما عام 1947، وبطولة بدرية رأفت وبدر لاما. وتمت معالجة القصة بطريقة كوميدية مفرطة في سذاجة منطقها تؤدي إلى زواج العاشقين في النهاية.

"العلمين" من إخراج عبدالعليم خطاب عام 1965، وبطولة نوال فهمي وصلاح قابيل. وحاول خلاله المخرج مقاربة أجواء القرون الوسطى، فصوّر فيلمه في الصحراء الغربية وحرص على ابراز العداوة القبلية والصراعات العائلية التي ستؤدي إلى النهاية الحزينة لقصة حب البطلين.

"حبك نار" عام 2004 و "الغرفة 707" عام 2008، وكلا الفيلمين من إخراج إيهاب راضي الذي يبدو أنه لم يهتم كثيرا بقراءة النص الأصلي فتحوّل إلى الفيلم الأمريكي الشهير "روميو وجولييت" من إخراج باز لورمان واستعار بعضا من العنف والأكشن اللذين صبغا الفيلم الأمريكي.

ترويض النمرة  

السينما المصرية استغلت بساطة القصة الشكسبيرية في التعبير عن المرأة بوجهيها الرقيق والعنيف في حكاية التاجر الثري وبناته الثلاث الجميلات وخصوصا أكبرهم وأجملهم كاترين الشرسة التي ترفض الزواج وبالتالي تتضرر أختاها الأصغر لأن الأب يرفض تزويجهما قبل زواج كاترين الكبيرة إلى أن يأتي باترشيو ليخطبها ويبدأ في "ترويضها". حكاية يسهل تخيّلها في فيلم مصري نظرا للأجواء التقليدية التي لا تزال سائدة، إضافة إلى الرؤية الذكورية التي تضمّنها القصة.

 "الزوجة السابعة" من إخراج إبراهيم عمارة عام 1950.  قدّم المخرج فيلما كوميديا ممتعا وجميلا بأداء سلس من ماري كويني ومحمد فوزي.

"المتمردة" من إخراج محمود ذو الفقار عام 1963، وبطولة صباح وأحمد مظهر. وفيه لا يتواني البطل، دكتور الحمير، عن محاولة إذلال بنت الذوات المتغطرسة.

  "آه من حواء" من إخراج فطين عبد الوهاب عام ١٩٦٢. ربما هو الفيلم الأشهر ولكن الحقيقة أن محمد أبو يوسف، سيناريست الفيلم، غيّر الكثير من الأحداث والتفاصيل فجعل الأب الثري جداً على سبيل المثال.  وقامت لبني عبد العزيز باظهار الكثير من الشراسة في مواجهة رشدي أباظة الذي لم يبخل بدوره في محاولات ترويضها.
السيناريست الراحل عبد الحى أديب عالج القصة في فيلمين لا يمتّان للأصل بصلة كبيرة
الفيلم الأول هو "جوز مراتى" من إخراج نيازى مصطفى عام 1963، بطولة صباح وفريد شوقي.
والفيلم الثاني هو "استاكوزا" من إخراج إيناس الدغيدى عام 1996، وبطولة رغدة وأحمد زكي اللذان قدما مباراة جريئة في إذلال الآخر في أجواء فرويدية ليست غريبة على المخرجة.

عطيل

القصة التراجيدية عن الغيرة القاتلة، غيرة الزوج المخدوع على زوجته البريئة الشريفة، وغيرة الصديق من صديقه، وجدت من يتلقفها لينسج من قماشتها الخام أعمالا تتفاوت في إخلاصها للعمل الأصلي.

"الشك القاتل" من إخراج عز الدين ذو الفقار عام 1953 ، وبطولة مريم فخر الدين ومحمود ذو الفقار ومحسن سرحان. زوج يشك في علاقة زوجته بصديقه المخلص، وينتهى الأمر بأن يقتل الزوج نفسه بعد تأكده من إخلاص زوجته ، وتتزوج الزوجة من الصديق !

"المعلمة" من إخراج حسن رضا عام 1958. من بطولة تحية كاريوكا ويحيي شاهين ومحمود المليجي. معالجة شعبية يصبح فيها عطيل المعلم عباس وديدمونة تتحول إلى المعلمة توحة، فيما تكفّل المعلم حافظ بلعب دور ياجو الذي يكيد للايقاع بين المعلم عباس وزوجته.

"أبو أحمد" من إخراج حسن رضا عام 1960، وبطولة أمل فريد وفريد شوقي وعمر الحريري. التجربة الأولى لعبد الحي أديب في اقتباس أعمال شكسبير تتحوّل إلى مثلث حب كلاسيكي في أجواء ساحلية سكندرية.

"الغيرة القاتلة" من إخراج عاطف الطيب في أولى تجاربه الاخراجية عام 1982.من بطولة نور الشريف ويحيي الفخراني ونورا. وهنا يصبح عطيل مهندسا شابا، وياجو الحاقد يصبح الباشمهندس مخلص وديدمونة المسكينة  تتحوّل إلى دينا، زميلة الجامعة، التي تتزوج المهندس الشاب الطموح وتتأزم علاقتهما بسبب مكائد مخلص.

الملك لير

قصة الملك الانجليزى الذى قرر تقسيم ملكه على بناته الثلاث ويطرد احداهن لاعتقاده بانها لا تحبه، بينما تقوم بنتيه بالوقوف ضده في النهاية وطرده من المملكة لتعود ابنته المطرودة لتساعده. تغيّرت تفاصيل القصة لتتناسب مع رؤية المخرجين والكتاب الذين حوّلوا شخصياتها وأضافوا إليها كذلك، فصار الملك االانجليزي مِعلّما، وقاضٍ.

"الملاعين" للمخرج أحمد ياسين، والذي أنتج عام ١٩٧٩، من بطولة فريد شوقي. السيناريست عبد الحي أديب غيّر من جنس الأبناء وأضاف تفاصيل غير موجودة في النص الشكسبيري، فصارت كورديليا الابنة الصغرى التي عطفت على والدها بعد طرده من قصره، صارت ابنا وفيا لوالده (مصطفي فهمي) في مقابل جحود أختيه. والملك لير أصبح المعلم آدم الاسناوي وأخيرا نهاوية مأساوية غارقة في الدموية.

"حكمت المحكمة" من إخراج أحمد يحيي عام 1981 من بطولة ماجدة الخطيب ويسرا ويوسف شعبان وفريد شوقي. الأخير قام بنفسه بكتابة السيناريو بنفسه  وحوّل الملك لير (الذي يقوم بدوره) إلى قاض على المعاش يتزوج من ممرضته الشابة ما يتسبب في المشاكل مع ابنتيه إلى أن يتنازل عن ثروته بحثا عن حياة جديدة مع زوجته الجميلة.
ويذكر أنه في العام الماضي ظهر مسلسل تليفزيوني تحت إسم "دهشة" من بطولة يحيي الفخراني، اقتبست فكرته الأساسية من مسرحية شكسبير.


وأخيرا فإن هاملت، مسرحية شكسبير الأشهر، والتي شغف بها يوسف شاهين طيلة حياته ولم يجرؤ على تقديمها في فيلم سينمائي، قدّمتها السينما المصرية في مناسبة واحدة في فيلم "يمهل ولا يهمل" من إخراج حسن حافظ  عام 1979 . من بطولة نور الشريف وفريد شوقي ومريم فخر الدين وميرفت أمين. وأيضا تم العبث بالقصة الأصلية  لتتحوّل إلى حدوتة بوليسية للبحث عن قاتل الأب. يترك الأمير الدنماركي الأجواء الارستقراطية ويأتي إلى أحد الأحياء الشعبية، فيما الملك المغدور به من قبل زوجته يصبح تاجراً ثرياً.


شكسبير في السينما العالمية: عشرة أفلام



تعتبر أعمال شكسبير منبعاً لا ينضب لكل أنواع التجريب الفني نظراً لعبقريتها في معالجة تعقيدات الوجود الانساني والتفاعلات البشرية والمشاعر المختلفة والمتنافرة من حبّ وغيرة وكره وجشع وطموح وانتقام وغيرها الكثير من الصفات التي يتقلّب البشر بينها
السينما لم تكن بعيدة أبداً عن أعمال الكاتب الخالد فتناوب السينمائيين -على اختلاف مشاربهم- على تحويل أعماله إلىى أفلام سينمائية.
 نختار لكم 10 من تلك الأفلام يُنصح بمشاهدتها.

Romeo and Juliet (1968)
المخرج والكاتب الإيطالي فرانكو زيفاريللي يعتمد على المسرحية الشهيرة في فيلم فاز بجائزتي أوسكار أفضل تصوير وأفضل تصميم أزياء، باخراج مفعم بالحيوية والشباب لم يخلو من إثارة الجدل نظراً للمشاهد العارية لبطليه المراهقين، وهو ما ساهم في شعبية في أوساط الشباب حينها، حيث قام بالدورين أوليفيا هاسي (15 سنة) ووايتنج ليونارد (17 سنة).


Hamlet (1948)
المخرج والكاتب والممثل الانجليزي لورنس أوليفيه ينجز معالجة فضفاضة ولكن مميزة لتراجيديا أمير الدنمارك، في فيلم بدا تأثره واضحا بجماليات الأبيض والأسود في فيلم "المواطن كين" للمخرج أورسون ويلز، ولكن أداء بطله الاستثنائي ساعد في فوزه بجائزة أوسكار أفضل ممثل بالاضافة إلى جائزة أفضل فيلم.


Richard III. (1955)
ثالث محاولات لورنس اوليفييه الاخراجية في اقتباس أعمال شكسبير بعد "هنري الرابع" و"هاملت" لم يستقبل الاستقبال المناسب من الجمهور في حينه ولكن الزمن أثبت أنه تضمّن أفضل أداء لبطله الذي برع في تجسيد شخصيات شكسبير وتعقيداتها النفسية.

  

Henry V (1989)
المخرج الإنجليزي كينيث براناغ في باكورته الاخراجية، يختار مسرحية شكسبير ليقدّم معالجة تفوّقت على نسخة الأستاذ لورنس أوليفيه السابقة. بتقديمه لساحة المعركة بكثير من الواقعية (الطين والدماء والفوضى الأخلاقية) فقد وجد براناغ مساحة مريحة بين الشوفينية البريطانية ونقد الامبريالية لم تكن واردة في نسخة أوليفيه التي ظهرت وقت الحرب العالمية الثانية .


My Own Private Idaho (1991)
المخرج الأمريكي جوس فان سانت يستعير عناصر من مسرحيتي شكسبير "هنري الرابع" و"هنري الخامس" في دراما حالمة، ولكن تركيز المخرج المولع بالتجريب - بتأثير من أورسون ويلز- يتحوّل بشكل واضح عن النص الشكسبيري. البطل هنا ليس الوريث البائس ولا فالستاف الماجن، ولكن صديق مخلص يصبح مستشاراً لاثنين من محتالي الشوارع.


Throne Of Blood (1957)
المخرج الياباني الأشهر، أكيرا كوروساوا، يجد في مسرحية "ماكبث" ضالته لتقديم تاريخ بلده وتبديل الأجواء لم يكن صعبا. يقول كوروساوا "إن قصة ماكبث أعجبتني وفكرت في تحويلها لفيلم يتناول الحروب الاهلية اليابانية، ففي تلك الحروب كثير من الوقائع التي تشابه الأحداث في المسرحية" وهكذا أصبحت اسكتلندا اليابان في العهد الاقطاعي والمملكة هى القلاع الحصينة والساحرات تحولن إلى عجوز حيزبون خارجة من الأساطير الشعبية اليابانية. ورغم ذلك لم يخلو الفيلم من التأثر بنسخة أورسون ويلز التي أنجزها عام 1948

  
Othello (1952)
في سن الخامسة والثلاثين أنجز المخرج الكبير أورسون ويلز تلك التحفة السينمائية عن التراجيديا العائلية الشكسبيرية، صورها في ثلاث سنوات متنقلا بين المغرب وإيطاليا  وسط مشكلات انتاجية هددت باستكماله، ورغم الاستقبال البارد في امريكا فقد نال الفيلم السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي الدولي. وإلى الآن تعتبر تلك النسخة هلى أفضل معالجة سينمائية لمسرحية شكسبير.


Ran (1985)
المحاولة الثانية لأكيرا كوروساوا في اقتباس شكسبير، وهذه المرة مع مسرحية "الملك لير"، وكانت النتيجة فيلما عظيما اعتبر في حينه أضخم انتاج سينمائي ياباني بكلفة وصلت إلى 12 مليون دولار أمريكي. ورغم اختلاف التفاصيل نظرا لرغبة المخرج في مواءمة الفيلم مع التقاليد اليابانية، فقد قدّم كوروساورا دراسة بليغة في سوء استخدام السلطة وعواقب التهور الانساني.


(Macbeth (1971
مأساة ولدت من رحم مأساة اخرى. المخرج رومان بولانسكي لم يكد يخرج من حزنه على مقتل زوجته شارون تيت على يد جماعة مانسون حتى شرع في العمل على معالجة مروعة للحكاية الشكسبيرية عن مأساة الملك الاسكتلندي وحياته مع الوساوس. من بدايته مع الساحرات الثلاثة؛ يبدو الفيلم غارقا في الأسى ولا مفر من الاشمئزاز الممزوج بالرعب من طبائع النفس البشرية. يقدّم بولانسكي صورة بائسة ومفزعة في توليفته الشعرية والمسرحية ويبدو الفيلم كما لو كان صرخة مفتوحة تطلب الانتباه.


Chimes at Midnight (1965)
أورسون ويلز مرة أخرى في فيلمه الأقرب إلى قلبه، أو "الفيلم الذي يودّ أن يصحبه إلى الجنة "على حد تعبيره. يقرر ويلز اللجوء إلى شخصية فالستاف تلك الشخصية التي ظهرت في مسرحيتي شكسبير عن حياة هنري الرابع وخصص لها لاحقا مسرحية كاملة بعنوان "دقات ويندسور المرحة". بعد استقبال كارثي لمحاولة تقديمها مسرحياً على مسارح بروداي، يعود ويلز بعد سنوات طويلة لتقديمها سينمائياً بثقة من لم يعد يهمه رأي الجمهور. أبدع ويلز هنا في تقديم اقتراحات جمالية مذهلة في عصرها وأثرّت لاحقا في أفلام مثل "قلب شجاع". بورتريه خالد لشخصية فالستاف التي تصدّرت المشهد تماما، وأعاد ويلز تعريفها كشخصية استعارت منها الكثير من الشخصيات الأدبية خصائصها.



9‏/4‏/2015

الطعام في حياة آديل


بعيداً عن الضجة التي آثارها فيلم المخرج الفرنسي التونسي عبد اللطيف كشيش "حياة آديل" بسبب جرأته، فإن مشاهدة أخرى للفيلم تحثّ على محاولة استبطان ما هو أبعد، في فيلم يصوّر بواقعية يوميات مراهقة بين دراستها المدرسية وحياتها الليليّة، والبحث عن هويتها الجنسية، وعلاقتها بمحيطها العائلي والمدرسي، والرغبة في التحقّق والتحرّر.
قبل ثماني سنوات أنجز كشيش «كسكسي بالبوري» مرتكزاً في قصته بالأساس على حفل مرتقب وترتيبات اعداد الطعام والشراب له. وفي «حياة آديل» يجد مساحة لشغفه بالطعام يبدأها من بطلته التي تأكل الاسباجيتي بشراهة تشابه أحلامها واقبالها على القراءة. سيظهر طبق الاسباجيتي بالصلصة الحمراء بعد ذلك ثلاث مرّات في الفيلم.
مشاهد الطعام تزيد من فهمنا للشخصيات وحياتها الداخلية وتضمّن بداخلها خلفياتها الثقافية وتقاليد اجتماعية موروثة. مقارنة بسيطة بين عائلتي آديل وإيما حين تعزم ضيفاً على العشاء تبرز الكثير.
تنتهز كلتا العائلتين الفرصة للتعرّف أكثر على أبنائهما خلال الحديث أثناء تناول الطعام. والدا إيما أكثر ليبرالية، ليس فقط من ناحية قبولهما ميول ابنتهما الجنسية ولكن في تقاليدهما المتعلقة بإعداد الطعام: الضيوف والمضيفون يتشاركون الطبخ، وكل منهم له الحرية لإضافة ما يتراءى له إضافته إلى مكونات الأكل، بينما في منزل آديل تبدو الأدوار محددة والقواعد أكثر صرامة.
دورة الكلام تبدو متشابهة في كلا المنزلين، حيث تزداد جدية المحادثة بانتهاء الأكل وفيما يذهب الحديث في منزل آديل إلى مناقشة بخصوص كسب العيش، فإنه يأخذ منحى فكرياً في منزل إيما. في كلتا الحالتين نرى توريثاً للقيم من جيل إلى آخر.
هذه المشاهد التي ترسم بالتفصيل تطور أحداث يومية وعادية، يكون من الصعب تصوّر وجودها في فيلم أقصر عن نفس الشخصيات في نفس الفترة الزمنية، أما البنية الملحمية للعمل الفنّي فتسمح لنا برؤية الأشياء الصغيرة وحدس ما وراءها.
كشيش، في فيلمه الممتدّ لساعات ثلاث تقريبا، يصل لذلك الاستنتاج بخصوص العائلتين من خلال تفصيل صغير "محادثة ما بعد العشاء"، يعرض لنا لقطات قصيرة ومختارة تكشف شخصية كل فرد على مائدة الطعام وتظهر قيم العائلة في روتينها اليومي. ذلك الانصهار بين التفكير والسلوك ربما يبيّن صعوبة انفصال الأفراد عن جذورهم، فرفض قيم عائلتك غالبا ما يعني رفضا لسلوكها، الأمر الذي يعطى ظلالاً لحياتنا بطريقة لا ندركها.
لكن كشيش يدرك تأثير ذلك في مشهد العشاء في النصف الثاني من الفيلم، حيث بعد سنوات عدة يقام حفل في شقة إيما وآديل بمناسبة إكمال الأخيرة دراستها العليا. يبدو المشهد نسخة مكبّرة من العشاء الذي تابعناه في منزل والدي إيما في الجزء الأول: الجو مرح وبهيج، المحادثات حرّة ومتشعبة، الضيوف أغلبهم من المثقفين والفنانين.
وسط تلك الأجواء نشعر بآديل وإحساسها بالابتعاد (أو الاستبعاد) من الحفل رغم إخلاصها في تحضير كامل الطعام المقدّم لضيوف السهرة؛ ربما ذلك هو السبب الحقيقيى الكامن وراء غضبها: لقد احتفظت آديل -دون أن تدرك- بعادة والديها في التفريق بين المتعة والعمل، وهو ما لا يتناسب مع المشهد الاجتماعي الذي تحيا فيه شريكتها. إنها مسألة وقت فقط كي تتصدّع علاقتهما العاطفية وتتهاوى.



آديل فتاة منحدرة من أصول بسيطة في الشمال الفرنسي وكشيش يؤكد على ذلك، يمكن لناقد ماركسي أن يقدّم تحليلا طبقياً لمشهد العشاء في شقة والديها. دخولها في عالم إيما -الفنانة، المثقفة، ابنة الطبقة المتوسطة الفرنسية- يبدو شاذاً رغم الترحيب الذي تلقاه من أسرة حبيبتها والذي يمكن اعتباره إعجابا بتلك "الفتاة رائعة الجمال الآتية من الضواحي"، افتتان برجوازي بالأكزوتيك التي يشجعونها على أن تصبح "مبدعة" مثلهم.
بعد انقضاء فترة البدايات الوردية في علاقتهما، تبدأ التصدعات في الظهور حين ينتقل الزوجان لشقة إيما، وتخفي آديل علاقتها بها عن زميلاتها في المدرسة، إلى أن تتطوّر الأمور وتتشاجر معهن حين يعايرنها بمثليتها.
آديل بسيطة وحلمها الأكبر أن تصبح مدرسة (حلم مناسب لفتاة فرنسية من الطبقة العاملة)، ليست مشروع مثقفة في طور الإنجاز. حين تطهو طعام الحفل كلّه فإنها تفعل ذلك لأنه ليس هناك شيء آخر يمكنها أن تقدمه وسط تلك الزمرة من الأشخاص.
ولاحقاً، حين تغضب إيما "لأسباب فنية" وتشرك آديل بالموضوع، لا تجد المسكينة دوراً يمكنها القيام به سوى إحضار الشاي لإيما كأي ربّة بيت تجد زوجها معكّر المزاج بسبب مشاكل العمل. العلاقة تنتهي ليس بسبب خيانة آديل لحبهما مع زميلها أستاذ المدرسة، لكن لأن ذات الشعر الأزرق اكتفت من الجماليات الأكزوتيكية التي تمثّلها آديل في حياتها وترغب للدخول أكثر في صدفة الحياة الباريسية المغلقة على أفرادها المثقفين حيث الجدالات الفكرية وأحاديث القيل والقال التي لا تنتهي.

2‏/4‏/2015

ساندويتش كياروستامي




لقطات طويلة وعالية للمناظر الطبيعية الإيرانية بينما تجتاز لانج روفر بديع التلال في دروب ملتوية. السماء (حتى المشهد الأخير) نادراً ما تُرى. يبقى بديع بالخارج دائماً يرفض دخول الاماكن المغلقة (متحف المحنّط أو وحدة الجندي). مظاهر الحضارة والتكنولوجيا يتم اختزالها في في آلات عملاقة تبدو  وكأنها صمّمت خصيصاً لنقل القمامة والحجارة من مكان لآخر

السيد بديع (اضطلع بالدور همايون أرشادي، مهندس معماري صديق لكياروستامي)، رجل في منتصف عمره يمضي الكثير من وقت الفيلم في القيادة خلال التلال المحيطة بطهران باحثاً عن من يساعده على الانتحار. خطته أن يأخذ جرعة زائدة من الحبوب المنوّمة ثم يبقى بعد ذلك في حفرة صنعها لنفسه ولكنه بحاجة لشخص يأتي إلى مكان الحفرة في الصباح التالي ليواري جسده التراب (إذا نجحت الخطة) أو  إخراجه من الحفرة (إذا فشلت).
يمكن تقسيم الفيلم إلى ثلاثة اجزاء؛ في كل منها يشرح السيد بديع الخطة إلى شريك محتمل: الأول جندي كردي شاب يعترض على الخطة ويتعجّب من تفكيره وبفعل الخوف يترك السيارة جرياً. الثاني طالب دين أفغاني في ثلاثينيات عمره يعترض على الخطة لأسباب دينية والثالث محنّط عجوز في متحف التاريخ الطبيعي يوافق على المساعدة بسبب حاجته إلى المال لعلاج طفله المريض. ينتهي الفيلم دون الكشف عن مصير السيد بديع وبدلاً من ذلك نراه مستلقياً في قبره المحتمل حتى يقطع كياروستامي على لقطة فيديو لمخرج (كياروستامي نفسه) وطاقمه يسجلون أصوات قوات عسكرية مترّجلة.
أعتقد أن "طعم الكرز" يمكن الحاقة بسهولة بالواقعية الجديدة Neo-Realism لدى سيكا وروسليني وراي وجميعهم مثل كياروستامي يوظفون ممثلين غير محترفين (مؤديين)، يصوّرون خارج الاستديو غالباً ويركزون كاميراتهم على حياة "حقيقية" مبعدين السنتمنتالية الذاتية لصالح الموضوعية (استخدام الصوت بصفة خاصة). هنا يضيف كياروستامي لمسة مابعد حداثية لفيلمه وكأنه يقول "هذا مجرد فيلم". البعض انتقد الحركة ولكني أتفق مع روزنباوم.
يعيد كياروستامي تمثيل الحياة بكامل تعقيدها الغني ويعيد تشكيل عناصر من الـ"تسعين دقيقة تصوير" السابقة لتوضيح ما هو حقيقي وماهو ملفّق/متخيّل/مُعد. أبعد من التأكيد على أن "طعم الكرز" هو "فقط"  فيلم فإن هذه النهاية الرائعة -في نظري- تقول من ضمن ما تقوله: إنه "أيضاً" فيلم.

في حوار تضمّنه اصدار كريتريون للفيلم؛ يقول كياروستامي أنه يحبّ الأفلام التي قد تسبب نعاساً للمشاهدين ولكنها تطاردهم حين يعودون إلى منازلهم. ضحكت كثيراً حين سمعت ذلك بسبب تجربتي الشخصية مع "طعم الكرز". لقد صارعت في الصباح التالي لمشاهدتي الفيلم مع ذلك المحنّط العجوز: فإذا كان كياروستامي يقول من خلاله أن الحياة تستحق أن تُعاش بسبب من اللذّة الحسّية (طعم الكرز) أو بسبب العلاقات الانسانية (أسرته وعائلته) إذا الفيلم doesn't realy work for me. ولكن سماع قصة المحنّط "المُرتّبة" بين محادثة اللاهوتي وخاتمة الفيلم؛ جعلتها أكثر إثارة للاهتمام ومثيرة للاعجاب أيضاً. إنه ذلك الحوار بين الإيمان والانسانية و(ربما) الجماليات aesthetics هو ما يتحدث إلى شخصياً.

1‏/4‏/2015

«À perdre la raison»: صرخة أوروبا على أطفالها


بوستر الفيلم يقول الكثير ويعطي مفاتيح للدخول في الحكاية: أم شابة تحمل بين ذراعيها طفلتين، شاحبة ومنهكة بشعر أشعث. زوجها الذي أمام عينيها لا يلاحظ أي شيء، مفتوناً بطفلتيه ومرتدياً بدلته المهندمة. المشهد الافتتاحي يقول البقية بدون اخفاء أياً من النتائج المأساوية والوقوف بعيداً عن المحاولات السنتمنتالية: موريل مصوّرة تقريباً عند مدخل المنزل من خلال الباب كما لو كان المشاهد يتلصص عليها، يشاهدها، ويتولّد احساس بالقلق. أن شيئاً فظيعاً قد حدث هنا. بعد ذلك مباشرة؛ يعيدنا المخرج لسنوات سابقة حين كانت موريل تبتسم ومقبلة على الحياة.
المرأة الصغيرة سعيدة وفي حالة حب، تقبل عرض حبيبها منير بالزواج. ثم يكشف الفيلم تدريجياً العلاقة بين منير والطبيب. أب؟ صديق؟ حبيب؟ لماذا يصرّ على العيش معهما؟. المشاهد لن يعرف لأن مع مرور الفيلم تركّز القصة على موريل؛ تلك المرأة التي تفقد كل شيء: جاذبيتها، حرّيتها، حبها للحياة، وبخاصة عقلها.

الكاتب والمخرج البلجيكي يواكيم لافوس/ Joachim Lafosse قدّم معالجة سينمائية حرّة لحادثة شغلت الرأي العام البلجيكي عن (جينيف لهرميت (Geneviève Lhermitte /الأم التي ذبحت أطفالها الخمسة في 2007 قبل أن تفشل في الانتحار. موضوع صعب وصادم ولا يحث الكثيرين على محاولة مشاهدة الفيلم، ولكن لافوس -بادراكه لثقل وعواقب قصته- سيترك المشهد المتوقع بعيداً عن الصورة وينجز فيلماً قوياً دون طرح السؤال البلاغي المعتاد: كيف استطاعت فعل ذلك؟. لا أحد (ولا حتى المرأة نفسها) يجرؤ على شرح دوافع لهرميت لانتهاك القوانين البشرية وارتكاب جريمة كهذه."كيف فعلت ذلك؟" هو خط مختلف لمقاربة الموضوع. وهذا ما يعني صانعو الفيلم الذي يتابع –بدون أحكام أخلاقية- القصة كرسم بياني، ويبحث في التفاصيل المحيطة التي جعلت أماً شديدة الاكتئاب لا تجد سوى تلك الطريقة المتطرفة في لاعقلانيتها كسبيل وحيد للخلاص.
لهرميت تغيّر اسمها ليصبح موريل (المذهلة إيميلي دكوانEmilie Dequenne )؛ الشخصية التي صارت موضوعاً لواحدة من أفضل المعالجات السينمائية المتأنّية عن الانهيارات الشخصية في السنوات الأخيرة. لافوس وشريكيه في كتابة السيناريو "Matthieu Reynaert"و "Thomas Bidegain"لا يقدّمون أية مشاهد رخيصة للإثارة في رحلة سقوط موريل المخيّبة من إمرأة متألقة وأم مُحبّة إلي ربة بيت مشلولة عملياً وأم لأربعة بنات (العدد تغيّر هو الآخر) رحلة يُسرق منها كل أوكسجين البهجة.



يمضي الفيلم بإلحاح سردي وكشف تدريجي وتركيز على تفاصيل حياتها المنزلية غير الطبيعية: محبوبة ولكن غير محمية من قبل زوجها المغربي غير المتحقّق،منير (طاهر رحيمTahar Rahim /). وهناك الطبيب أندريه (نيلز أرسترو/ Niels Arestrup الذي يعيدنا اضطلاعه بالدور هنا إلى العلاقة الأبوية المحمومة بينه وبين رحيم في (Un prophète,2009)  من إخراج جاك أوديار). أندريه هو قلب الفيلم المظلم والغامض؛ لا قرابة دم بينه وبين منير ولكنه بمثابة أب روحي له. تبنّاه طفلاً بناءً على طلب والدته الفقيرة وعاش معه ورعاه وصار كإبنه. مع رقة الطبيب الواضحة في التعامل؛ يلمّح لافوس إلى إحتمال حدوث علاقة جنسية بين الاثنين في وقت سابق. أندريه طبيب عام، غني ويسمح لمنير بالعيش معه بعد زواجه. ومع توسّع الأسرة الصغيرة يصبح أندريه والداً ثالثاً دائم الحضور في حياة الأسرة. عطفه لا يُقدّر بثمن من قبل منير ولا يطاق بالنسبة لموريل التي تجد كلّ قراراتها الامومية تحتاج للمرور ليس على رجل واحد ولكن رجلين في المنزل.
بهدوء يدفع لافوس ذلك المثلث المنزلي الخانق إلى نقطته الحرجة، ويصبح واضحاً أن الفيلم ليس مجرد قصة مرعبة مستقاة من عناوين الجرائد ولكن دراساً أكثر عمقاً وعالمية لأسرة غير تقليدية وهشاشة التوازن بين جنسيها مع مخاوف دينية مبطنة تحضر في الصورة. ربما تستفز موريل المشاهد الأوروبي بعدم انفصالها عن زوج غير كفؤ أو على الأقل التعبير عن تحفظها بشكل أكبر تأثيراً، ولكنها تبدو أيضاً وقد أُخذت بتعاليم زوجها الإسلامية أكثر مما يفعل هو. العديد من السينمائيين الأوربيين يمكنهم معالجة نفس القصة بصورة أكثر تطرفاً ومغالاة ولكن لافوس يتعامل بالجدية المناسبة مع قصته ولا يتساهل في إطلاق أحكام مجانية على أضلاع المأساة الثلاثة.

طاهر رحيم صموت بفعالية في دور خانق أكثر مما اعتاد الجمهور المتابع مشاهدته، ونيلز أريسترو يعيد الأداء الديناميكي كشراكتهما السابقة، ولكن إيميلي دكوان هي التي تقود الدراما. بشكل واضح أكثر نضجاً وأنثوية مما كانت عليه قبل ثلاثة عشر عاماً حين قدّمها الأخوان داردان في (Rosetta, 1999)، مع ذلك ظلّت تلك الطلّة البناتية وتقلّب العيون البريّة التي جعلت من إحساسها المتنامي بالأسر في منزل الزواج المقترض محسوساً بصورة ضاغطة. تقوم بتصوير عجز موريل التدريجي عن التحكم بحياتها وتبوير إنسانيتها دون اللجوء في أي وقت للمبالغة في أداء النوبات العقلية المضطربة.



في أحد المشاهد المهمة، تقود موريل سيارتها في طريقها للمنزل. تتابعها الكاميرا في لقطة طويلة تستمع للراديو الذيع يذيع أغنية "Femmes Je Vous Aime" تغني مع كلمات الأغنية" حين يبدو ان كلّ جرح سيبقى إلى الأبد.. أعرف فقط النساء الهشّات والصعبات، ليس البسيطات منهم" وفي لحظة رائعة تنهار موريل باكية. ربما لانتباهها إلى السخرية الذكورية للأغنية، وربما لإدراكها بأن المودة ليست في كتالوج حياتها وأن الهروب مستحيل. يمكن الإشارة إلى الطبيب كرمز للمركزية الاقتصادية في فيلم يخبرنا ان الرأسمالية ذات طبيعة أبوية بالضرورة وتقوم على هيراركية يتفوّق فيها الذكر.
في أمريكا أية نجمة سينمائية ستؤدي نفس المشهد من شأنه أن يجلب لها أوسكار أفضل تمثيل على الفور. دكوان المستحمة في ضوء أبيض يبرز ذهولها؛ مع الدقائق المارة تعطي شخصيتها حضور شبحي وتتألق في تصوير اغترابها، تتحوّل تدريجيا إلى ميديا العصر الحديث. سوادها يتكشّف تدريجيا بلقطات مقربة يداوم عليها المخرج لتوريطنا في حياة موريل  مع استخدامه لباليتة ألوان هادئة بميلها نحو درجات الأزرق والرمادي لتأكيد الجليد العاطفي والإحباط الذي تحياه موريل.

اللقطات الليلية للمنزل تحمل طابعاً غريباً. في أحد المشاهد نرى الطبيب حاملاً واحداً من أحفاده (؟)،الظلام يشمل جسده بالكامل مع إطار مضي للجانب الأيسر منه. تكوين مرعب يحملنا إلى جماليات الكياروسكورو Chiaroscuro. نادراً ما تسمح الكاميرا باتساع الكادر لاضافة عنصر للسياق وتؤكد في كل لحظة على الانضغاط والكلاستروفوبيا (رهاب الأماكن الضيقة).
قتل الأطفال يتم خارج الصورة. تنادي الأم من الطابق العلوي على كل طفلة بلطف، في جلوسهن لمشاهدة الكارتون على تليفزيون المنزل (دائماً مصدر إلهاء، دائماً هروب، وعذر للدخول في محادثة). واللقطة الختامية للفيلم تنفتح على صورة تتسع للمنزل الذي يكتسي بلمحة ريفية بسيطة، نسمع صوت موريل من بين دموعها تعلم الشرطة بجريمتها عبر الهاتف. المنزل يبدو كسجن.
مع تترات النهاية نسمع ذلك المقطع الشعري “fac me vere tecum flere” من ترنيمة وقورة لستابت ماتر Stabat Mater قدّمها جوزيف هايدن Joseph Haydn في معالجته لأحد النصوص الدينية التي يشير لوقوف السيدة العذراء أمام صليب السيد المسيح. المعزوفة يؤديها هنا تريفور بينوك Trevor Pinnock بحزن خالص. البيت الذي يقول " Make me truly weep with you" يتحدث للمشاهد بشكل خاص؛ ليس عن سمات مشتركة تجمع بين موريل ومريم العذراء (والتي بالمناسبة صورتها المفروضة على النساء ربما تكون جزءاً من مأسسة اضطهادهن)، ولكن عن حزن النساء كلهن ومن هنا يأتي التأسّي المشترك.




الفيلم: À perdre la raison
المخرج: Joachim Lafosse
إنتاج: 2012