31‏/8‏/2015

Matchy: Seeing double









La-di-da: Diane Keaton


قبل 4 أشهر، أصدرت الممثلة الكبيرة ديان كيتون (Diane Keaton) سيرتها الذاتية تحت عنوان ."Let's Just Say It   Wasn't Prettyبداية من الإعتراف بأننا نعيش في عالم مهووس بتحقيق شروط مستحيلة للجمال، تشاطر السيدة كيتون وجهة نظرها بخصوص فكرة الشيخوخة في هوليوود قائلة: "أن الشخصية الأكثر أهمية التي ستلعبها هي نفسك."
هنا نظرة سريعة على شخصيات أخرى قامت كيتون بأدائها على مدار السنين الماضية من كاي آدامس وآني هال ونينا بانكس إلى كارول ليبتون.


"لقد جعلني ذلك أفكر فيما قلته لي ذات مرة: "في غضون 5 سنوات عائلة كورليوني ستكون شرعية تماماً". كان ذلك قبل 7 سنوات
The Godfather: Part II (1974)


"La-di-da, la-di-da, la la, yeah" 
Annie Hall (1975)


"كلّ واحد ياخد حاجة وإلا مش هيخلّصوا في ليلتهم"
Looking for Mr. Goodbar (1977)


"لا تحلّلني نفسياً. انا أدفع للطبيب من أجل ذلك"
Manhattan (1979)

"إن دافع الربح في الاقتصاد العالمي سبب جذري للحرب."
Reds (1981)

"هل تعتقد أنه من الممتع الحصول على مكالمة هاتفية تخبرك بالنزول إلى مركز الشرطة لأن زوجك تم القبض عليه لسرقته هوت دوج؟"
Father of the Bride (1991)

"أنا لا أفهم لماذا لست أكثر افتتاناً بهذا! أعني، من الممكن أن نكون جيران قاتل يا لاري"
Manhattan Murder Mystery (1993) 

"هل لا زلنا نعتقد أنني أعاني من نقص الفيتامين؟"
Marvin's Room (1996)

"بدّيها الحب وبحميها وأعلمها، وفجأة بقى ده بيخنق!"
The Other Sister (1999)

"أنا أسفة. بحبك. كلّميني كلّ 5 دقايق"
Hanging Up (2000)

"أنا عاملة زي البنت الهطلة اللي ما بتاخدش حاجة. أنا عمري ما كنت بنت هطلة قبل كده. مش حلو خالص ده"
Something's Gotta Give (2003)

"يا إلهي،أنا عندي ذوق رائع"
The Big Wedding (2013) 

29‏/8‏/2015

Pierrot le fou @50


في 29 يوليو من عام 1965 عرض مهرجان فينيسيا السينمائي -–للمرة الأولى- أفلام " Sandra"للوتشينو فيسكونتي و " Simon of the Desert" للوي بونويل و" Red Beard" لأكيرا كوروساوا، ولكن كان هناك عنواناً واحداً فاق ما سواه، حتى وإن قوبل في البداية باستهجان الجمهور: إنّه " Pierrot le fou" لجان لوك جودار.

أحاول الآن تخيّل شعور الجمهور أثناء وبعد مشاهدة الفيلم وهل كان مماثلاً لما مرّ ببالي في أولى مشاهدتي للفيلم قبل 6 سنوات. هذا فيلم إما أن تحبّه وتغرق فيه "إنه فيلم واحد يودّ أن يتحدث عن كل شيء وإما أن تسبّ الدين لمخرجه الذي لا يعرف ماذا يفعل بكل تلك المشاهد المفكّكة حتي ليبدو الفيلم كمسودة أفكار روائي شاب :)
مستمراً في تجديده المتهوّر والمحموم للسينما (كان هذا هو عاشر أفلامه خلال ست سنوات)، إستخدم جودار نموذجاً كلاسيكياً من الثيمة السينمائية "إثنان على الطريق" (couple-on-the-run movie) ليحكي قصة ما أسماه "الثنائي الرومانسي الأخير": رجل باريسي يعمل في التليفزيون يدعى فرناندو) أو بييرو) (Jean-Paul Belmondo) وجليسة أطفاله و حبيبته السابقة ماريان (Anna Karina) يتجهان إلى الجنوب الفرنسي مع مسدس ليحققا المقولة الكبرى الساخرة للمخرج: "كل ماتحتاجه لصنع فيلم ناجح: فتاة ومسدس". تصرّ ماتريان على مناداته "بيرو" نسبة لأغنية الأطفال الشهيرة "بييرو صديقي" وفي كل مرة يصحّح لها قائلاً "أسمي فرديناند" لكنها لا تأبه.
بأسلوب جوداري (Godardian) عن حق، جاءت الحبكة الفيلمية كذريعة للاستطرادات الساخرة عن الرأسمالية وحرب فيتنام، وإستخدام أدوات لونية أسلوبية، وتفحّص لا يرحم عن توافق الرجل والمرأة. كلّ ذلك يأتي من دون أي سكريبت مكتوب، ومصوّراً بألوان أساسية من عدسة راؤول كوتار (Raoul Coutard) السكرانة.

حب مجنون
الفيلم مأخوذ عن رواية لليونيل وايت بعنوان "الهوس" ولكن ذلك لا يعني الكثير مع جودار الذي لا يعتمد على الحكاية في شكلها التقليدي لكن كإطار عام يضع فيه شخصياته وأفعالها (؟). ربما من الدقة -في حالة الفيلم- القول ردود أفعال الشخصيات على ما يحدث في محيطهم، يهرب فرديناند (أو بييرو) البرجوازي المتزوج من ملل مجتمعه (الاستقرار الوظيفي والحياتي) ويهجر حياته السابقة مع ماريان، المطاردة من جزائريين، يذهب الإثنان إلى جزيرة صغيرة في المتوسط. تُولد حالة حياة بايقاع غريب ودائما الإثنان في حالة فرار. محاولات محمومة للقبض على السعادة وإعلان مستمر عن رفض الجحيم الذي يمثّله الآخرون. 
يبدو ذلك تأسيساً لزوجين متماثلين في الأفكار والرغبات ولكن في الحقيقة أن فرديناند (أو بييرو) وماريان على النقيض من ذلك: يحلم بكتابة رواية وزيارة فينيسيا وأثينا، تحلم بزيارة شيكاجو. ما يبدو هرباً من العالم ومحاولة ردّ الدين له بالانتقام منه، سيتحوّل إلى صراع بين الشخصيتين في تلميح مبكر إلى النهاية التراجيديا التي تنتظرهما في نهاية الفيلم. حالة من الغضب الكامن أحياناً والمُعلن في الكثير من التفاصيل بين الشخصيات جعلت الفيلم لوحة سينمائية يؤطرها الجنون.



الأسلوب
جودار المخرج القادم من عالم النقد السينمائي في "دفاتر السينما" (Cahiers du Cinéma) يعتزّ به النقاد أكثر قليلا من المخرجين، منذ أفلامه الأولى وحتى فيلمه الأخير  كان مثيراً للجدل والتجديد في السينما على مستوى البناء والمضمون، لذا كان الأسلوب هو الميزة الأهم في أعماله. ساهمت خلفيته النقدية في عشرينياته بشكل كبير في طريقته الإخراجية حين تحوّل إلى الوقوف وراء الكاميرا. من إحترامه لنظريات سيرجي إيزنشتين (Sergei Eisenstein) بخصوص المونتاج والديالكتيك الذي يخلقه واللقطة الطويلة كما عبّر عنها أندريه بازان (رئيس تحرير دفاتر السينما حينها)، ودون أن ننسى ميول جودار الماركسية في ذلك الوقت والمناخ العام المسيطر على فترة الستينيات بالرغبة الشابة في التحرّر من جمود المجتمع. كان لدى جودار طموح مسيطر –ربما كأي ماركسي مخلص-   أن يتم تدمير مفهوم دار العرض السينمائي، وأن تتحوّل السينما إلى "منشورات"، وكان يرى ان العروض السينمائية يمكن أن تذهب إلى الشقق السكنية وأماكن التجمع. كان ينظر لها كفكرة تشاركية يمكن مبادلتها مع الآخرين: "يجب إنجاز الأفلام جماعة وحول فكرة سياسية، مثلما يحدث مع الواجبات المدرسية التي يتشارك الطلاب في حلّها، فأنا أعتقد أنه يجب صنع الأفلام بالتشارك مع من يشاهدها"
وفي تلك الفترة أيضاً كان هناك تصريحات لا تخلو من راديكالية كبيرة، يقول مثلاً: "إن الرأسمالية فرضت فكرة الكاميرا اللعبة، التي تتيح لأي شخص تصوير ما يرغبه ومشاهدته بينما يتناول العشاء مع أسرته ولكن يجب علينا وجميع من يؤمن بربط الصورة بالنشاط الثوري، إستغلال ذلك التطور وإستثماره في الإفصاح عما يجب أن يقال، ومعرفة ما الكلام الذي مُنع من الظهور، والمعوقات التي يفرضها "العواجيز" على الشباب للحيلولة من دون أن يقال". كلام كبير مفيش كلام. المفهوم الجمعي للفيلم كما تصوّره جودار، متأثراً بالمسرح البريختي (نسبة إلى برتولد بريخت) خلق مسافة بين الفيلم والمُشاهد حتى لا يتورط الأخير عاطفياً، الامر الذي وفّر –وفقاً لجودار- مساحة للذهنية أكثر من العاطفية التي حاربها جودار لأنها "أداة السينما الهوليوودية ومفرداتها التخديرية".

هنا يجعل جودار فيلمه "خلّاطاً" للأفكار والأساليب: النوار موجود وأورسون ويلز ومواطنه كين وفريتز لانج وآلان رينيه ولوي بونويل وسيرياليته، الكاميرا المحمولة والكاميرا المهتزة، وأخطاء شريط الصوت، والجرائم الخرقاء، الحرب وجنون العظمة، الفلسفة والتفاهة.


مشاهد
الحوار هو نجم الفيلم الذي يحفل بعدد من المشاهد المخدومة والرايقة، ربما أشهر تلك المشاهد هو مشهد الحفل في بداية الفيلم حيث تدعو زوجة فرديناند زوجها إلى حفل أرستقراطي فيحاول الأخير التملّص منها ولكنه يستسلم في الأخير وينزل على رغبتها. وكان ذلك مقدمة لانجاز مشهد بليغ وفشيخ في سيرياليته التي يتعرّض بها لأفراد الطبقة البرجوازية في الحفل ليقرر بعدها فرديناند (أو بييرو) الهروب مع جليسة أطفاله. في مشهد الحفل ينحو المخرج نحو التجريد من خلال إستخدام المرشّحات اللونية لتعكس طبيعةالأقنعة والنوازع البشرية المختلفة من نفاق وخداع ومكر . يهدف جودار من خلال ذلك إلى تعرية واقع النفاق الإجتماعي في تلك الطبقة المخملية التي تعتاش على رسم صورة منافية لحقيقتها فيما ينهشها النقص بداخلها والبرود من الخارج. في الحفل أيضاً يقابل المخرج الأمريكي صامويل فولر(Samuel Fuller) الذي يجيب سؤال فرديناند عن ماهية السينما بكلمة واحدة: "مشاعر". شرّير يا جودار.





مشهدي المفضّل

وأخيراً: هنا شانتال أكيرمان (Chantal Akerman) تتحدث عن مشاهدتها للفيلم للمرة الاولى في حياتها حين كانت في الـ 15 من عمرها.



المصادر
محادثة مسموعة على موقع " SoundOnSight" (لم يعد اللينك متاحا)
Sight & Sound May, 2009 

أطفال سوريا



قبل شهر قرأت خبراً عن طفل سوري (14 سنة) فجّر نفسه بقنبلة يدوية بعد أن هجرته حبيبته، وإلى الآن لا أزال عاجزاً عن فهم الحرب وما يمكن أن تفعله في أرواح من خبروها.
أطفال سوريا -ممن بقوا على قيد الحياة- فقدوا براءتهم في حرب بين المسلّحين الكبار تغذّيها أوهام النفوذ والسيطرة لقوي إقليمية ودولية.

وبعد أربع سنوات ونصف من اشتعال الوضع في سوريا، تبدو أعداد الضحايا في نشرات الأخبار أرقاماً باردة لكن خلف تلك الأعداد ألم كبير وجزع لا يعرف معناه إلا من قاساه ويقاسيه.



Edward YangThe Terrorizers, 1986.

Illustration: Dorota Podlaska

26‏/8‏/2015

"Inherent Vice": يوتوبيا الحلم الأمريكي المتداعي



"في النهاية لا يوجد فراغ في الزمن.. بحر الوقت، بحر الذاكرة والنسيان، سنوات الوعد مضت ولا يمكن استيفاؤها، سنوات الأرض التي سمحت تقريبا بالمطالبة بمصير أفضل، فقط لتنتهزها النوايا السيئة المعروفة جيدا وتستولي عليها في المقابل وتحتجز المستقبل الذي علينا أن نعيشه الآن وإلى الأبد"
"في سياسة التأمين البحري، فإن الرذيلة المتأصّلة هي أي شيء لا يمكنك تفاديه: تكسُّر البيض، ذوبان الشيكولاتة، تهشُّم الزجاج. وتساءل دوك عما يعنيه ذلك حين يطبّقها على الحبيبات السابقات" - توماس بينشون (رذيلة متأصّلة، 2009)

في سابع أفلامه الطويلة؛ يذهب المخرج الأمريكي الكبير بول توماس أندرسون/ Paul Thomas Anderson  إلى الروائي الأمريكي توماس بينشون/ Thomas Pynchon وروايته -السابعة أيضًا- المعنونة " "Inherent Viceوالتي يمكن ترجمتها إلى "رذيلة متأصّلة". عمل أندرسون لسنوات في مهمّة تحويل الرواية إلى سيناريو سينمائي قابل للتصوير وإلى إتمام تحقيق فيلمه الذي تعثّر أكثر من مرّة بسبب مشاكل إنتاجية. تصادف أن رواية بينشون السابقة "ضد النهار" تدور حول شخصية واحدة، وكذلك كان الفيلم السابق لأندرسون "The Master" الذي تناول فصولًا من سيرة مؤسس غامض لطائفة دينية/اجتماعية في أمريكا. ولكن هنا ينقل الإثنان مجموعة كبيرة من الشخصيات إلى الستينيات ومخدراتها وهيبيتها وبارانويتها التي سيطرت على أمريكا حيث "الحب كلمة تدورفي أجواء تلك الأيام، ولكنها أيضًا وسيلة جيّدة للاستغلال تؤدّي عادة إلى المتاعب".
راكبي أمواج وراكبي درّاجات نارية، محتالين وقتلة، مُرابين ورجال أعمال، أناركيين وعملاء فيدراليين، عملاء سرّيين ومدمني مخدّرات، محبّي الروك، وكيان غامض يدعي "الناب الذهبي"،، كلّ ذلك ربما يكون غطاء لعملية تهرّب ضريبي تقوم بها جمعية لأطباء الأسنان. هذا هو عالم توماس بينشون الساحر الذي سيدخله المُشاهد في هذا الفيلم المخلص لروح الرواية المأخوذ عنها.
حينا جامح لا يمكن كبحه وحينا آخر حزين وحدادي. الفيلم الذي يبدو وكأن مادة التتراهيدروكانابينول tetrahydrocannabinol)) تقوم بجولة بين مشاهده، يحافظ على حوار ولغة الرواية الأصلية بعكس ما فعل المخرج في  اقتباسه السابق في فيلم "There Will Be Blood".  يعود أندرسون إلى الصخب والأداء الجماعي الممهور بغرابة الشخصيات وكثافتها اللذين حدّدا انطلاقته في 1997 مع فيلم "Boogie Nights" ولكن طموح المخرج هنا أكبر بكثير حيث يلتقط عصرًا وبلدًا على شفا الإنهيار العصبي. المطّلعون على الأدب الأمريكي الحديث والطليعي سيبدو إسم بينشون مألوفًا لأسماعهم وهو الذي اشتهر باستحالة أفلمة رواياته، ولكن أندرسون يفعلها بكثير من المخاطرة والمثابرة.
إنه العام 1970 حيث يبدأ الفيلم، بالضبط بعد أشهر قليلة من جرائم القتل التي قامت بها عائلة مانسون . المجزرة الوحشية التي وقعت على طريق سيلو (Cielo Drive) كانت واحدة من عديد الأحداث المسؤولة عن اتشاح جورديتا بيتش (Gordita Beach) بالسواد. جورديتا بيتش موطن راكبي الأمواج ومضيفات الطيران ومهندسي علوم الفضاء وجنّة مدمني شمال كاليفورنيا، هي تلك المدينة التي اخترعها توماس بينشون وهي المكان الذي نشأ فيه التحرّي الخاص صاحب الشعر الطويل لاري سبورتيللو الشهير بـ "دوك" (يواكين فينيكس/ Joaquin Phoenix في ثاني تعاون مع المخرج). جدير بالذكر أن الكلمة الأولى في هذا الإسم الذي جاء على غرار مانهاتن بيتش -حيث عاش بينشون في نهاية الستينيات- أسبانية وتعني البدين الريّان وهو وصف دقيق للكمية الهائلة من الماريجوانا التي يدخّنها التحرّي الهيبي طوال الفيلم.

دوك التحرّي الهيبي (hipster) يواجه اليمين المتحفظ الذي يمثله الضابط الفيدرالي بيجفوت (جوش برولين) في فترة كانت الموجة "الهيبية" ترقص فيها رقصتها الأخيرة بعد أن تصدّرت المشهد تماما طيلة العِقد الذي شهد حرب فيتنام والحركات المناهضة لتلك الحرب والتي كان في صدارتها هؤلاء الهيبين والمثقفين الأمريكيين (شارك توماس بينشون في عريضة وقعها نحو 600 مثقف ونشرت في "نيويورك تايمز").

بين الرواية والفيلم
توماس بينشون (كاليفورنيا 1937) هو واحد من أهم الروائيين الأمريكيين الموجودين حاليا ومرشح دائم في السنوات الأخيرة للحصول على جائزة نوبل للآداب. عُرف عن بينشون عزلته الشديدة وقلة الظهور اجتماعيا وإعلاميا (شارك بصوته في حلقتين من مسلسل الأنيميشن الشهير "The Simpsons"، ويُقال أنه ظهر بشكل خفي في فيلمنا هذا). اعتاد صاحب "قوس قزح الجاذبية" على تلك الحياة المنعزلة منذ تخرّجه من جامعة كورنيل في أواخر الخمسينيات، حيث رفض مرارا إجراء أية مقابلات صحافية أو حفلات ترويجية لرواياته، الأمر الذي دفع البعض -في الستينيات مع بدايته الأدبية- إلى التشكيك في وجوده وهويته من الأساس. وبالمناسبة، فإن هناك إشارة حزينة وواجبة تتمثل في أنه من بين روايات بينشون السبع ومجموعاته القصصية الخمس ومجلديه اللذين يضمان مقالاته لم يترجم عمل واحد إلى اللغة العربية، ولا يبدو في الأفق القريب وعدًا بتغيير تلك الحال.

أما بول توماس أندرسون (كاليفورنيا 1970) فهو واحد من فصيلة نادرة من السينمائيين الأمريكيين إذ لا تحمل الفيلموغرافيا الخاصة به سوى 7 أفلام، مع تقدير واحترام على الصعيد الدولي وعشرات الجوائز ليس من بينها الأوسكار لسوء حظ الأكاديمية. عُرف منذ صغره بشغفه الكبير بكل ما يتعلق بالكاميرا والتصوير والسينما حيث كان يقوم بتصوير أفلام قصيرة في مراهقته بالإضافة لولعه بالكتابة مما جعله يمتلك أهم المقومات الأساسية في التأليف و الإخراج. جاءه المجد باكرا حين أنجز فيلم ""Boogie Nights وهم لم يزل في الـ 27 من عمره مستخدماً فيه نجومًا من الصف الأول (بيرت رينولدز، مارك وولبرج، هيذر جراهام، جوليان مور)، ومنذ ذلك الحين صنع أندرسون لنفسه إسمًا ورافقته سمعته كمخرج لا يستأثر ببطولة أفلامه ممثل واحد، وكأنه ينظر للسينما –كما الحياة- كساحة لدراما إغريقية تتنوع فيها البطولات وتتحوّل كذلك.

نحن أمام رواية تنتمي إلى نوعية فريدة ونادرة من العطاء في إطار الأدب الأميركي، وهو أمر يذكرنا بحقيقة محزنة، وهي أنه من بين روايات بينشون السبع ومجموعاته القصصية الخمس ومجلديه اللذين يضمان مقالاته لم يترجم عمل واحد إلى اللغة العربية، ولا يبدو أن الأفق يحمل وعداً بالانجاز في هذا المجال. إنجاز فيلم سينمائي استنادًا على أي من روايات بينشون مقامرة غير رابحة غالبًا لأن أسلوب كتابته المليء بالحبكات الجانبية (sub-plots) وأفكار النقد السياسي والإجتماعي التي يضمّنها في أعماله، يجعلان من الصعب ترجمتها إلى صور ومشاهد محبوكة: إما أن يكتفى السينمائي بالحبكة الرئيسية للرواية وحينها سيكون المنتج النهائي ساذجًا بالمقارنة بكثافة العمل الأدبي، وإما أن يأخذ طبق المكرونة الروائي بأكمله فيصير العمل السينمائي مفكّكًا؛ إذا تمّ إنجازه بالأساس. إذًا أخذ صاحب الروائع السينمائية المخاطرة وامتلك الشجاعة الكافية لنقل أوّل رواية لبينشون إلى الشاشة (تقول قاعدة بيانات الانترنت للأفلام (IMDB) أن هناك فيلما ألمانيا بعنوان "" تم انجازه استنادًا على رواية بينشون الشهيرة "قوس قزح الجاذبية" ولكن ليس هناك أية معلومات متوفّرة بخصوصه).تأتي كاليفورنيا في الرواية كاستعارة لفكرة المجتمع العظيم، وكعادة بينشون فإن ميكانيزم الحركة الداخلية التي يعتمدها في عمله تلزم الدوران. وفي هذا الإطار، فإن هناك شعورًا بالحنين لكاليفورنيا كما خبرها بينشون في شبابه. يصف لوس أنجلوس بـ "المدينة المغمورة بشمس لا نهائية وتغرق في انتشاء المخدرات"، وهو وصف متوافق مع لاري  سبورتيللو الشهير بـ "دوك"، أولى الشخصيات التي تظهر في الرواية/الفيلم. دوك شخصية نموذجية لتمثيل تلك السنوات الهاربة في الزمن، إنتباهه يذهب في إثر نماذج "غريبة" من البشر هي ذاتها التي يمتليء بها عالم بينشون الروائي، وتلك فقط مجرّد بداية.

 يبدأ الفيلم كما الرواية في لوس أنجلوس صيف 1970 حيث نتعرّف على التحرّي الخاص الذي يرتبط اسمه بمجموعة مختلفة من الجرائم ويسعى هو من ناحية أخرى إلى الكشف عن ملابساتها. هذا التحرّي ذو الشعر الطويل مدخّن شره للماريجوانا كأي هيبي مخلص لذلك الوصف. من المؤكد أن هناك قصة تُروى، قصة تأسيسية أو محورية تتجمّع حولها باقي القصص، ويمكن القول أن تلك القصة هي قصة دوك ومساعَدته لحبيبته السابقة شاستا فاي (كاثرين واترستون/ Katherine Waterston) على حماية حبيبها الحالي مطوّر العقارات الشهير ميكي ولفمان من زوجته وعشيقها اللذان يخططان لاختطافه. تتطوّر القصة لاحقًا وتصبح مهمة دوك هي اكتشاف من يقف وراء اختطاف ميكي ولفمان ومكان احتجازه كذلك، ثم الوصول إلى شاستا. في الوقت ذاته تظهر مهمة جديدة تتمثّل في مساعدة موسيقي يدعى كوي هارلينجتن (أوين ويلسون/ Owen Wilson) في إيجاد زوجته وابنته وكذلك التملّص من إحدى الفرق الموسيقية التي تعمل كغطاء لتنظيم إجرامي عنيف.
تلك هي البداية فقط في طوفان هائل من الشخصيات التي ستخرج من اللامكان، وقرّاء بينشون يعلمون جيدًا أن الحبكة -بصورتها الكلاسيكية- ليست ما يهمّ الكاتب ولا تطوير كل شخصية جديدة تظهر أو تقديم قصص خلفية تشرح وتفسّر ما يستجدّ من أحداث وشخصيات. ولكن اهتمام بينشون يظهر في تناغمات بلاغية في جمل تجمع بين الغنائية القحّة والسخرية اللاذعة، وحساسية كاريكاتورية لا تهدأ تنبعث منها الفكاهة التي تتجاوز العبثية لتصل في النهاية إلى إعلان عن عالم موازي قد يكون موجودًا في الوقت ذاته مع العالم اليومي الذي نختبره كل صباح. كثير من متعة الفيلم يكمن في ذلك السرد الآخذ في الإتساع بلا مبالاة تقريبًا، مثل الدخول في متاهة تنمو وتتمدّد في طبقات متحدّة المركز. إنها حبكة من أجل الحبكة لذاتها. ناس تأتي وتذهب وأشياء تنحسر من الرؤية، ثم تأتي تفاصيل صغيرة لتستحوذ على اهتمام متزايد. "كلّ شيء متصلّ ببعضه" ولكن حتى مع العلم بذلك فإن هذا لا يضمن فهم الحكاية المتاهيّة. مع نهاية الفيلم، فإن أي شكل من أشكال إغلاق القوس يمكن أن يمثّل غرقا في ميتا (meta) حكاية، ولكن هذا لا يمنع امكانية الاستثمار العاطفي والفكري بعيد المدى. بعض النقاد وصفوا الفيلم بأنه "أسوأ أفلام بول توماس أندرسون حتى الآن" حتى أن أحدهم كتب يقول: " أشعر أن أندرسون نفسه لا يدري ما يفعل سوى أنه مشغول في ملء فراغات بحوارات طويلة عقيمة". ولكن في مثل هذا الكلام ظلمٌ بيّن لواحد من أمتع الأفلام عن إنهيار الحلم الأمريكي.

 عقب صدور الرواية في عام 2009 اختتمت مجلة "رولينج ستون" عرضها المطوّل للرواية بالقول: "أنها أكثر روايات بينشون طرافة ومرحًا، وتعتبر اختصارًا مجنونًا ومبهرًا لما يجعله صوتًا فريدًا في الأدب الأمريكي، وهي كذلك تحتوي على الغضب الأخلاقي الذي دمغ أعماله منذ البداية". وزعمت أن الرواية لا تحتاج سوى لمسات بسيطة من كاتب سيناريو بارع كي تتحوّل إلى فيلم شديد الجاذبية تتوفّر فيه كل مقومات النجاح: البطل التحرّي المثير للاهتمام والتعاطف كذلك، والقوة الدافعة اللازمة للتشويق، والمشاهد المتدفقة، وخارطة هائلة من الشخصيات التي تنتظر قدرًا ضئيلًا من التدخّل والإضافة لتحويلها زحامًا من الشخصيات الدرامية التي سترافق المُشاهد في فيلمٍ زاخر.
هناك ولع كبير بالفترة التاريخية التي يصوّرها الفيلم "أن تكون شابًّا في ذلك العصر هو النعمة بحدّ ذاتها" تقول سورتلييج في الفيلم. هذا الطرح يتم التأكيد عليه طويلًا في الرواية كمن يردّد أغنية يحبّها ولا يجعلها تفارقه، وكأن بينشون يستعير حزن مارسيل بروست في حنينه إلى الزمن المفقود. الملامح السياسية المضطربة لتلك الفترة يؤتى بها كوجبة مُعلّبة انتهت فترة صلاحيتها. يأتي ذلك متوافقًا مع اختصار التعقيدات الفكرية إلى مسألة استقطابية بين الجنوح للعدمية ونظرية المؤامرة، الديونيسية والأبولونية، الأناركية والحرية الفوضوية.
عفوية الرواية -التي يمكن أن تؤخذ عليها سلبا- تجعلها مثل ارتجالات فردية لموسيقى الجاز حوارات مطوّلة قائمة على ألعاب لغوية غاية في السهولة الممتنعة، ونثر يمتح من المحلية الأمريكية (حافظ الفيلم على ذلك) قد يُنسى المشاهد القاريء أن أحدًا  قام بكتابة هذا الكلام. وهو الأمر الذي أشارت إليه "نيويورك ريفيو أوف بوكس" في عرضها للرواية بقولها: "إن قراءة بينشون من جديد تتيح للمرء تذكُّر أن الرواية يمكنها توضيح عملية الإمساك بأطراف العالم على نحو ما يبدو عليه، كما يمكنها أيضا تغييره عن طريق رؤيته من زوايا جديدة، وهذا الشيء الأخير هو ما يجعل بينشون ناثرًا ساحرًا فهو يطبّق اللغة على ما نعرفه وما غاب عنّا مضيفا شكلًا جديدًا على كلا الأمرين".

 بعض التعليقات حول الفيلم شابهته بفيلم "The Long Goodbye" لروبرت ألتمان واعتبرته ابن عمّه السايكدليك (،(psychedelic ولكن هناك بعضًا من هزلية جيري لويس/ Jerry Lewis أيضًا. فيلم الكوينز "The Big Lebowski" يأتي على البال كذلك، ولكن ما من شيء أخذه أندرسون من هذا الفيلم ولكن كلا الفيلمين يعتمدان على بنية معرفية وشعورية متشابهة. الفارق الوحيد أن أندرسون بني مسيرته السينمائية في كاليفورنيا الشمالية، في حين أن الكوينز تخصصا في الانتقال الجغرافي: واشنطن ومينيسوتا ونيويورك ولوس أنجلوس إلخ.
الماكياج وتصميم الملابس والإنتاج عناصر جاءت بتوفيق مُطرّز، والأمر هنا لا يتعلّق فقط بمسألة الحصول على التفاصيل الصحيحة ولكن إنتاج عالم كامل يمكّننا من استنباط بعض التفاصيل التي ليست بالضرورة معروضة على الشاشة. موسيقى جوني جرينوود/  Jonny Greenwoodجاءت متوافقة مع المناخ العام للفيلم وحاولت استذكار تلك الحرّية البوهيمية التي عرفتها تلك الفترة. طاقم التمثيل بأكمله يستحق الإشادة: يواكين فينيكس، جوش برولين، أوين ويلسون، ريز ويزرسبون، بينيثيو ديل تورو، مارتن شورت وجينا مالون، ولكن الممثلتان الصينية هونج شاو/ Hong Cha والأمريكية كاثرين واترستون/ Katherine Waterston تستحقان تنويها خاصًا: الأولى قدّمت دورًا يتلاعب بالمُشاهد طيلة الفيلم، والثانية كتبت شهادة نجوميتها وأتت شخصيتها ووجودها السنتمنتالي كامتداد مثالي لرومانتيكية أندرسون.


مثل العديد من أفلام النوار المتميزة تحتوى حبكة الفيلم على عمليات خطف مختلفة وكارتلات مخدرات وتحالفات قذرة وفساد مستشري بين الشرطة و"تاريخ طويل وحزن من استخدام الأراضي في لوس أنجلوس" على حدّ تعبير سورتلييج (جوانا نيمسون/ Joanna Newsom في دور مفاجيء وأثيري) طفلة القمر الحكيمة وراوية الفيلم التي لا تمتّ أثيرية شخصيتها إلى باقي الفيلم بصلة. كثافة ضباب المؤامرات التي تتحوّل فيها حفلات تناول البيتزا إلى تجمعات شريرة، تكشف عن تفشّي أوهام العظمة في تلك الفترة والتي ليست دائما نتيجة تناول مواد ذات تأثير تنشيطي على المخّ. هذه الأنشطة والأحداث الغريبة تأتي مؤطّرة بجمل وصور تعزّز -بدلاً من أن تنقص- من ميلانكولية الفيلم العميقة. الفيلم يمكن اعتباره كمفتتح روحي وكرونولوجي لـ "Boogie Nights" من حيث أنه يقبض على الكوة الأخيرة في فضاء الحرية والمثالية (الستينيات هنا والسبعينيات هناك)، وكما فعل في فيلميه السالفين "There Will Be Blood, 2007" و "The Master, 2012"، قام أندرسون بخلق ملحمة حميمية أخرى عن اليوتوبيات الفاشلة، والوعود المحطّمة، والمشعوذين الكاريزميين، والتناقضات الهائلة التي طبعت الولايات المتحدة في القرن العشرين كرحلة نوارية ثقيلة يبدو أنها لا تزال مستمرة إلى الآن.

الفيلم: Inherent Vice
إخراج: Paul Thomas Anderson
إنتاج: 2014