29‏/8‏/2015

Pierrot le fou @50


في 29 يوليو من عام 1965 عرض مهرجان فينيسيا السينمائي -–للمرة الأولى- أفلام " Sandra"للوتشينو فيسكونتي و " Simon of the Desert" للوي بونويل و" Red Beard" لأكيرا كوروساوا، ولكن كان هناك عنواناً واحداً فاق ما سواه، حتى وإن قوبل في البداية باستهجان الجمهور: إنّه " Pierrot le fou" لجان لوك جودار.

أحاول الآن تخيّل شعور الجمهور أثناء وبعد مشاهدة الفيلم وهل كان مماثلاً لما مرّ ببالي في أولى مشاهدتي للفيلم قبل 6 سنوات. هذا فيلم إما أن تحبّه وتغرق فيه "إنه فيلم واحد يودّ أن يتحدث عن كل شيء وإما أن تسبّ الدين لمخرجه الذي لا يعرف ماذا يفعل بكل تلك المشاهد المفكّكة حتي ليبدو الفيلم كمسودة أفكار روائي شاب :)
مستمراً في تجديده المتهوّر والمحموم للسينما (كان هذا هو عاشر أفلامه خلال ست سنوات)، إستخدم جودار نموذجاً كلاسيكياً من الثيمة السينمائية "إثنان على الطريق" (couple-on-the-run movie) ليحكي قصة ما أسماه "الثنائي الرومانسي الأخير": رجل باريسي يعمل في التليفزيون يدعى فرناندو) أو بييرو) (Jean-Paul Belmondo) وجليسة أطفاله و حبيبته السابقة ماريان (Anna Karina) يتجهان إلى الجنوب الفرنسي مع مسدس ليحققا المقولة الكبرى الساخرة للمخرج: "كل ماتحتاجه لصنع فيلم ناجح: فتاة ومسدس". تصرّ ماتريان على مناداته "بيرو" نسبة لأغنية الأطفال الشهيرة "بييرو صديقي" وفي كل مرة يصحّح لها قائلاً "أسمي فرديناند" لكنها لا تأبه.
بأسلوب جوداري (Godardian) عن حق، جاءت الحبكة الفيلمية كذريعة للاستطرادات الساخرة عن الرأسمالية وحرب فيتنام، وإستخدام أدوات لونية أسلوبية، وتفحّص لا يرحم عن توافق الرجل والمرأة. كلّ ذلك يأتي من دون أي سكريبت مكتوب، ومصوّراً بألوان أساسية من عدسة راؤول كوتار (Raoul Coutard) السكرانة.

حب مجنون
الفيلم مأخوذ عن رواية لليونيل وايت بعنوان "الهوس" ولكن ذلك لا يعني الكثير مع جودار الذي لا يعتمد على الحكاية في شكلها التقليدي لكن كإطار عام يضع فيه شخصياته وأفعالها (؟). ربما من الدقة -في حالة الفيلم- القول ردود أفعال الشخصيات على ما يحدث في محيطهم، يهرب فرديناند (أو بييرو) البرجوازي المتزوج من ملل مجتمعه (الاستقرار الوظيفي والحياتي) ويهجر حياته السابقة مع ماريان، المطاردة من جزائريين، يذهب الإثنان إلى جزيرة صغيرة في المتوسط. تُولد حالة حياة بايقاع غريب ودائما الإثنان في حالة فرار. محاولات محمومة للقبض على السعادة وإعلان مستمر عن رفض الجحيم الذي يمثّله الآخرون. 
يبدو ذلك تأسيساً لزوجين متماثلين في الأفكار والرغبات ولكن في الحقيقة أن فرديناند (أو بييرو) وماريان على النقيض من ذلك: يحلم بكتابة رواية وزيارة فينيسيا وأثينا، تحلم بزيارة شيكاجو. ما يبدو هرباً من العالم ومحاولة ردّ الدين له بالانتقام منه، سيتحوّل إلى صراع بين الشخصيتين في تلميح مبكر إلى النهاية التراجيديا التي تنتظرهما في نهاية الفيلم. حالة من الغضب الكامن أحياناً والمُعلن في الكثير من التفاصيل بين الشخصيات جعلت الفيلم لوحة سينمائية يؤطرها الجنون.



الأسلوب
جودار المخرج القادم من عالم النقد السينمائي في "دفاتر السينما" (Cahiers du Cinéma) يعتزّ به النقاد أكثر قليلا من المخرجين، منذ أفلامه الأولى وحتى فيلمه الأخير  كان مثيراً للجدل والتجديد في السينما على مستوى البناء والمضمون، لذا كان الأسلوب هو الميزة الأهم في أعماله. ساهمت خلفيته النقدية في عشرينياته بشكل كبير في طريقته الإخراجية حين تحوّل إلى الوقوف وراء الكاميرا. من إحترامه لنظريات سيرجي إيزنشتين (Sergei Eisenstein) بخصوص المونتاج والديالكتيك الذي يخلقه واللقطة الطويلة كما عبّر عنها أندريه بازان (رئيس تحرير دفاتر السينما حينها)، ودون أن ننسى ميول جودار الماركسية في ذلك الوقت والمناخ العام المسيطر على فترة الستينيات بالرغبة الشابة في التحرّر من جمود المجتمع. كان لدى جودار طموح مسيطر –ربما كأي ماركسي مخلص-   أن يتم تدمير مفهوم دار العرض السينمائي، وأن تتحوّل السينما إلى "منشورات"، وكان يرى ان العروض السينمائية يمكن أن تذهب إلى الشقق السكنية وأماكن التجمع. كان ينظر لها كفكرة تشاركية يمكن مبادلتها مع الآخرين: "يجب إنجاز الأفلام جماعة وحول فكرة سياسية، مثلما يحدث مع الواجبات المدرسية التي يتشارك الطلاب في حلّها، فأنا أعتقد أنه يجب صنع الأفلام بالتشارك مع من يشاهدها"
وفي تلك الفترة أيضاً كان هناك تصريحات لا تخلو من راديكالية كبيرة، يقول مثلاً: "إن الرأسمالية فرضت فكرة الكاميرا اللعبة، التي تتيح لأي شخص تصوير ما يرغبه ومشاهدته بينما يتناول العشاء مع أسرته ولكن يجب علينا وجميع من يؤمن بربط الصورة بالنشاط الثوري، إستغلال ذلك التطور وإستثماره في الإفصاح عما يجب أن يقال، ومعرفة ما الكلام الذي مُنع من الظهور، والمعوقات التي يفرضها "العواجيز" على الشباب للحيلولة من دون أن يقال". كلام كبير مفيش كلام. المفهوم الجمعي للفيلم كما تصوّره جودار، متأثراً بالمسرح البريختي (نسبة إلى برتولد بريخت) خلق مسافة بين الفيلم والمُشاهد حتى لا يتورط الأخير عاطفياً، الامر الذي وفّر –وفقاً لجودار- مساحة للذهنية أكثر من العاطفية التي حاربها جودار لأنها "أداة السينما الهوليوودية ومفرداتها التخديرية".

هنا يجعل جودار فيلمه "خلّاطاً" للأفكار والأساليب: النوار موجود وأورسون ويلز ومواطنه كين وفريتز لانج وآلان رينيه ولوي بونويل وسيرياليته، الكاميرا المحمولة والكاميرا المهتزة، وأخطاء شريط الصوت، والجرائم الخرقاء، الحرب وجنون العظمة، الفلسفة والتفاهة.


مشاهد
الحوار هو نجم الفيلم الذي يحفل بعدد من المشاهد المخدومة والرايقة، ربما أشهر تلك المشاهد هو مشهد الحفل في بداية الفيلم حيث تدعو زوجة فرديناند زوجها إلى حفل أرستقراطي فيحاول الأخير التملّص منها ولكنه يستسلم في الأخير وينزل على رغبتها. وكان ذلك مقدمة لانجاز مشهد بليغ وفشيخ في سيرياليته التي يتعرّض بها لأفراد الطبقة البرجوازية في الحفل ليقرر بعدها فرديناند (أو بييرو) الهروب مع جليسة أطفاله. في مشهد الحفل ينحو المخرج نحو التجريد من خلال إستخدام المرشّحات اللونية لتعكس طبيعةالأقنعة والنوازع البشرية المختلفة من نفاق وخداع ومكر . يهدف جودار من خلال ذلك إلى تعرية واقع النفاق الإجتماعي في تلك الطبقة المخملية التي تعتاش على رسم صورة منافية لحقيقتها فيما ينهشها النقص بداخلها والبرود من الخارج. في الحفل أيضاً يقابل المخرج الأمريكي صامويل فولر(Samuel Fuller) الذي يجيب سؤال فرديناند عن ماهية السينما بكلمة واحدة: "مشاعر". شرّير يا جودار.





مشهدي المفضّل

وأخيراً: هنا شانتال أكيرمان (Chantal Akerman) تتحدث عن مشاهدتها للفيلم للمرة الاولى في حياتها حين كانت في الـ 15 من عمرها.



المصادر
محادثة مسموعة على موقع " SoundOnSight" (لم يعد اللينك متاحا)
Sight & Sound May, 2009 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق