26‏/4‏/2015

"IloIlo": وقائع منزلية



  قبل عامين؛ أثار المخرج السنغافوري الشاب أنطوني تشان ((Anthony Chen إعجاب العديد من النقاد بعد عرض فيلمه الأول "إيلو إيلو" في مهرجان كان السينمائي والذي نال عنه جائزة الكاميرا الذهبية لأفضل عمل أول ومن يشاهد الفيلم -الذي استمد عنوانه من منتجع إيلو إيلو الفلبيني- لن يجد صعوبة في معرفة السبب الذي يكمن في بساطة الفيلم وعذوبته وأصالته في الوقت ذاته. استمد تشان قصة فيلمه من تجربة شخصية عندما قدمت خادمة فلبينة إلى بيتهم في الفترة من عام 1988 إلى 1997، وقد حضرت الخادمة الحقيقية في العرض التجاري الأول للفيلم. ويجب الإشارة للتشابه الواضح بين الفيلم وأسلوب تصويره والفيلم الياباني Nobody Knows (2004) للمخرج هيروكازو كوريدا.

يبدأ الفيلم بشاشة مظلمة مصحوبة بمجموعة من الأصوات: أطفال يلعبون، بوق حافلة وأصوات أناس بالغين. في باكورته الإخراجية يعيد تشان تمثّل سنغافورة -أثناء الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالاقتصاد الأسيوي في العام 1997- من خلال الذكريات في بيوجرافيا فضفاضة لا تتشكّل بإعادة التمثيل الأركيولوجي بل باستعادة انطباع عام من الطفولة يتم التعامل معه بحساسية تفصيلية واضحة. يتحرّك الفيلم بين أحاسيس عابرة وأحداث ترقم ذاكرة أصحابها؛ من خلال تركيزه على وجهة نظر جيالي (Jia Ler Koh)، طفل شقي ومشاغب ينشغل عن دروسه بقصّ أرقام اليانصيب الفائزة والتمعنّ فيها على أمل فك شفرتها، عادة ما نشاهده صنواً في إطار ما مع قضبان نافذة، حقيبة مدرسة، شاشة زجاجية، أو من خلال تصوّرات نصف متخيلة ناتجة عن ملاحظات جيالى الخاطفة لعالم الكبار من حوله. كوه يؤدي الدور بأصالة مدهشة بتجسيده لذكريات تشان وذلك الارتباك الداخلي لطفولة متأخرة تصبح واعية بتناقضها الذاتي؛ الطفل المزاجي والمشاغب هو نفسه السخي والوفي والمخلص. "إيلو إيلو" يستحضر واقعية الذاكرة المفرطة بمحاكاة المواقف التي تستدعي التجربة، يتجاهل المخرج اللقطات الطويلة (استخدمها في فيلمه القصير السابق) وعوضا عنها يصور بكاميرا محمولة كادراته المشرقة بتفاصيل تعلن عن نفسها بوضوح. لقطات أولى لأذرع جيالي العارية في بيجامة تتصدّرها رسوم كارتونية تدعو المشاهد للتشبّع بتمثيلات ما يراه : سرير قطني نظيف، زي مدرسي زاهي البياض، أرضيات رخامية براقة، طبقة بلاستيكية على مفرش المائدة الدانتيل. يلتقط مدير التصوير بينوا سولير Benoit Soler)) كل من رطوبة سنغافورة اللزجة ووداعتها في ليل داكن الزرقة ويعرضهما من خلال ضبابية مريحة تحجب أحياناً رقة اختيارات الفيلم اللونية. كما أن تصوير سولير الطبيعي واستبعاد تشين للموسيقى التصويرية والصوت الذاتي (أغنية واحدة تُلعب في نهاية الفيلم مؤشرة على انتهاء الاستدعاء) كانا حاسمين في إغفال الفيلم للعاطفية sentimentality التي تقدّم نفسها هنا بوصفها ذاكرة وليس حنيناً nostalgia.


الفيلم أيضاً يتعرّض لتجربة جيالى في التعرّف على نفسه من خلال اخضاعه لنظام هيكلي شديد الصرامة يضبط العاطفة والمودة. تيري (الممثلة الفلبينية Angeli Bayani) خادمة فلبينية تنتقل إلى منزل إحدى عائلات الطبقة المتوسطة السنغافورية-الصينية  لرعاية ابنهما المزعج والذي منذ وصولها يرفضها ويثور عليها، ومن ناحية أخرى تبدأ هذه الوافدة الغريبة في اكتشاف الفواصل العاطفية التي تعزل كل فرد من أفراد العائلة في منطقة محصورة ومحصّنة أيضا من الحوار أو الإفصاح وبحرية عن أزماتها المتراكمة. عدم الاستقرار المالي للأسرة يوتّر الأبوين: الأب تيك (Chen Tian Wen) يلتحق –سرّاً- بوظيفة حارس ليلي بعد تسريحه من عمله كموظف مبيعات، ويعكس الممثل جزعه واضطرابه النافث كبركان ينتظر لحظة الانفجار. والأم هوي (الممثلة الماليزية  (Yann Yann Yeoالحامل في طفلها الثاني تظهر حنانها وازدرائها وأحياناً حقدها في محاولتها لدفع إعيائها واستعادة مكانتها الأمومية والحفاظ على وظيفتها كموظفة عمومية. السياسات الاقتصادية والطبقية تجد مكاناً لها على مائدة مشاكل الأسرة الصغيرة ولديها القدرة على التمكين أو الحدّ من التعبير عن الحبّ بين أفرادها: عندما يسخر أحد زملاء جيالى في المدرسة بقوله أن تيري تظهر له الحبّ فقط لأن أمه تدفع لها فإن جيالى يدفعه بقوة ليرتطم بالجدار ولاحقاً يتم طرده من المدرسة تقريباً. تراقب الكاميرا وجه جيالي من خلال ستائر داكنة يتمتم بكلمات العهد الوطني السنغافوري، يمشي على خشبة مسرح قبالة زملاؤه الجالسون في قاعة المدرسة بزيهم المدرسي، وبينما تقوم مديرة المدرسة بالقاء خطبة عن النظام وضرورة الالتزام به؛ نرى وجه جيالي وقد اكتسته الحمرة والدموع بفعل الضرب بالعصا من أحد مدرسيه الذي –وللمفارقة- كان سبباً في فوزه بأحد جوائز اليانصيب الكبرى.

الربط السياسي بين الشخصي والعام ينعكس من بداية الفيلم حيث نتابع الكاميرا المحمولة تتجوّل بين منازل ملوّنة مكوّمة بجوار بعضها وأسواق ضاجة ووجوه حميمة وإيماءات تتخلّلها لقطات بانورامية ساكنة لميناء سنغافورة وأفقه المجدب. يتقابل الفضاءان حين يقوم جيالى بأخذ تيري لسطح منزلهم المؤسس من قبل مجلس التنمية والإسكان (HDB) ونرى وجودهما الفيزيائي (الجسد) كجزء لا يتجزأ من الطبوغرافيا الحضرية في لقطة مقربة وأخرى بعيدة. من هنا فإن فحص المخرج للأحداث الهامة –ولكن القليلة- من الحياة المنزلية التي تحتل المساحة الاكبر من ذاكرة الطفولة يستكشف العلاقات البينية والتوترات التي تبرز من خلال الفضاءات بين وحول مثل تلك البنى الهيكلية. يؤطّر المخرج بدقة التفاعلات الجسدية الهادئة لممثليه حين تقوم شخصياتهم بوعي وبدون وعي بالتلقى والاستجابة أحدهم مع الآخر. هناك عناية خاصة بالديناميكية الداعمة لعلاقة الأم والخادمة واللتان تقودان توافقات مربكة ومعقدة لصورة الأم عند جيالى. يحاكي تشين الادراك اللاحق للطفل من خلال تفاعلات مختارة بعناية وعذوبة مثل دجاجة عيد الميلاد المقلية التي ندخل حكايتها في البداية من خلال برنامج تليفزيوني يعرض مجيء كتاكيت صغيرة للعالم بعد فقس بيضها يختلط ذلك مع لقطة لظهر جيالي من وراء زجاج مضبب يعيدنا إلى مشهد الفيلم الافتتاحي وينبهنا لاحقاً في مشهد إزالة الجبس عن ذراع جيالى المكسورة. ومثل ارتباط جيالى العاطفي بالدجاجات الصغيرة من أول نظرة حين يقدمها والده كهدية عيد الميلاد؛ توضّح الكاميرا المضببة حركة الأجسام حول مائدة الطعام في انعكاس واضح لمشهد قدوم تيري إلى المنزل فإن النفور من تيري يتحوّل مصدره من الطفل لأمه.



 جزء من قيمة الفيلم هو نزاهته النادرة بالتركيز على تيري كخادمة فلبينية بدون تاريخ معروف. بياني تقوم بأداء أدوار تيري المتناسبة مع أفراد الأسرة الثلاثة والنساء الفلبينيات الأخريات اللواتي تقابلهن في سنغافورة كخادمة الشقة المقابلة، وفي عملها الثاني –الغير شرعي- كحلّاقة في أحد صالونات التجميل، ومع ذلك أثناء مكالماتها التليفونية لذويها في الفلبين ومع سعيها لمعرفة أخبار ابنها يمكن للمشاهد الشعور بتعقيدات مشكلة تأجير الأرحام التي تربض تحت سطح الأحداث. تتكشّف تيري كشخص براجماتي يبحث عن نجاته الخاصة ويمتلك ماضيه أيضاً ولكن روح الفيلم الذاتية لا تنجرف وراء الأحكام المجانية. في واحد من المشاهد الرقيقة والثقيلة في آن يكسر المخرج النظام الواقعي لفيلمه حين يسقط حامل الغسيل في الشارع وتسرع تيري لاعادته لتفاجأ بشخص يسقط منتحراً بقربها، واحد من سكان البناية ذاتها التي تسكنها العائلة. وفي لقطة تالية مقربة نرى الخادمة وهي تعاين معصمها الذي تنطبع عليه آثار محاولة سابقة لها مع الانتحار، في إشارة ذكية من المخرج اختصر فيها تاريخاً من العذابات في لمحة عابرة ولكن امتدادها الجارح يبقى، كذلك تتخلى كاميرا سولير عن واقعيتها وتدخل في "نوبة بصرية" لتدخلنا في تضاريس تيري الذهنية التي يتجاور فيها الموت والحياة، الطمأنينة والفزع.

حين يبتعد الفيلم عن كونه "ذاكرة" يفقد بعضاً من وهجه وفعالية سرده، ومع ذلك ينتعش الفيلم مع نهايته الحسّاسة التي تنقل شعوراً قاسياً بالنضج الذي يحدثه الفراق. جيالى بلباس الكبار يجلس رفقة والده في المستشفى بانتظار استكمال عملية توليد أمه، يشارك سماعات الأذن مع والده لنستمع إلى أغنية تشاركتها تيري سابقاً مع جيالى ولم تعجبه. الآن نسمع الاغنية المصحوبة بلقطات فيديو تظهر ولادة حقيقية للطفل. إدراج الفيديو المنزلي يؤطّر الفيلم كمعارضة أدبية للذكرى، حيث الانطباعات الممتدة التي تنظم الفيلم تبدو كحكايات موروثة تشابه عملية تذكّر ذكريات شخص آخر. عن النجاح النقدي الكبير للفيلم تحدث المخرج عن أمله بان يؤثر ذلك على تغيير نوعية الأفلام المنتجة في سنغافورة (حيث معظم الإنتاج السينمائي إما كوميدي أو رعب) ويشجع القطاعين العام والخاص على الاستثمار في إنتاج أفلام أقل تجارية وتنحو إلى التجريب والفنية. وصف تشان فيلمه بأنه يقوّض الكثير من التوقعات عما يمكن ومالا يمكن فعله في سنغافورة، ولكنه ينجز فيلماً سنغافورياً بامتياز، باستدعائه لأحاسيس محددة وتضفيرها بالراهن المحلي وتعقيداته، ومقاربته لتقاطعات النظم الاقتصادية والطبقية مع التجربة الذاتية والعلاقات الشخصية، وكأن الفيلم يأخذ ذاكرة سنغافورة الموروثة ويقدّمها لجيل جديد. جاذبية الفيلم الزائدة تأتي من إتصاله وتركيزه على أصداء عادية ومألوفة لتجربة الطفولة في دورة تذكُّر إنطباعية تجعلنا نحن كمشاهدين سنغافوريين أيضاً.


مخرج الفيلم مع مربيته الحقيقية






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق