1‏/4‏/2015

«À perdre la raison»: صرخة أوروبا على أطفالها


بوستر الفيلم يقول الكثير ويعطي مفاتيح للدخول في الحكاية: أم شابة تحمل بين ذراعيها طفلتين، شاحبة ومنهكة بشعر أشعث. زوجها الذي أمام عينيها لا يلاحظ أي شيء، مفتوناً بطفلتيه ومرتدياً بدلته المهندمة. المشهد الافتتاحي يقول البقية بدون اخفاء أياً من النتائج المأساوية والوقوف بعيداً عن المحاولات السنتمنتالية: موريل مصوّرة تقريباً عند مدخل المنزل من خلال الباب كما لو كان المشاهد يتلصص عليها، يشاهدها، ويتولّد احساس بالقلق. أن شيئاً فظيعاً قد حدث هنا. بعد ذلك مباشرة؛ يعيدنا المخرج لسنوات سابقة حين كانت موريل تبتسم ومقبلة على الحياة.
المرأة الصغيرة سعيدة وفي حالة حب، تقبل عرض حبيبها منير بالزواج. ثم يكشف الفيلم تدريجياً العلاقة بين منير والطبيب. أب؟ صديق؟ حبيب؟ لماذا يصرّ على العيش معهما؟. المشاهد لن يعرف لأن مع مرور الفيلم تركّز القصة على موريل؛ تلك المرأة التي تفقد كل شيء: جاذبيتها، حرّيتها، حبها للحياة، وبخاصة عقلها.

الكاتب والمخرج البلجيكي يواكيم لافوس/ Joachim Lafosse قدّم معالجة سينمائية حرّة لحادثة شغلت الرأي العام البلجيكي عن (جينيف لهرميت (Geneviève Lhermitte /الأم التي ذبحت أطفالها الخمسة في 2007 قبل أن تفشل في الانتحار. موضوع صعب وصادم ولا يحث الكثيرين على محاولة مشاهدة الفيلم، ولكن لافوس -بادراكه لثقل وعواقب قصته- سيترك المشهد المتوقع بعيداً عن الصورة وينجز فيلماً قوياً دون طرح السؤال البلاغي المعتاد: كيف استطاعت فعل ذلك؟. لا أحد (ولا حتى المرأة نفسها) يجرؤ على شرح دوافع لهرميت لانتهاك القوانين البشرية وارتكاب جريمة كهذه."كيف فعلت ذلك؟" هو خط مختلف لمقاربة الموضوع. وهذا ما يعني صانعو الفيلم الذي يتابع –بدون أحكام أخلاقية- القصة كرسم بياني، ويبحث في التفاصيل المحيطة التي جعلت أماً شديدة الاكتئاب لا تجد سوى تلك الطريقة المتطرفة في لاعقلانيتها كسبيل وحيد للخلاص.
لهرميت تغيّر اسمها ليصبح موريل (المذهلة إيميلي دكوانEmilie Dequenne )؛ الشخصية التي صارت موضوعاً لواحدة من أفضل المعالجات السينمائية المتأنّية عن الانهيارات الشخصية في السنوات الأخيرة. لافوس وشريكيه في كتابة السيناريو "Matthieu Reynaert"و "Thomas Bidegain"لا يقدّمون أية مشاهد رخيصة للإثارة في رحلة سقوط موريل المخيّبة من إمرأة متألقة وأم مُحبّة إلي ربة بيت مشلولة عملياً وأم لأربعة بنات (العدد تغيّر هو الآخر) رحلة يُسرق منها كل أوكسجين البهجة.



يمضي الفيلم بإلحاح سردي وكشف تدريجي وتركيز على تفاصيل حياتها المنزلية غير الطبيعية: محبوبة ولكن غير محمية من قبل زوجها المغربي غير المتحقّق،منير (طاهر رحيمTahar Rahim /). وهناك الطبيب أندريه (نيلز أرسترو/ Niels Arestrup الذي يعيدنا اضطلاعه بالدور هنا إلى العلاقة الأبوية المحمومة بينه وبين رحيم في (Un prophète,2009)  من إخراج جاك أوديار). أندريه هو قلب الفيلم المظلم والغامض؛ لا قرابة دم بينه وبين منير ولكنه بمثابة أب روحي له. تبنّاه طفلاً بناءً على طلب والدته الفقيرة وعاش معه ورعاه وصار كإبنه. مع رقة الطبيب الواضحة في التعامل؛ يلمّح لافوس إلى إحتمال حدوث علاقة جنسية بين الاثنين في وقت سابق. أندريه طبيب عام، غني ويسمح لمنير بالعيش معه بعد زواجه. ومع توسّع الأسرة الصغيرة يصبح أندريه والداً ثالثاً دائم الحضور في حياة الأسرة. عطفه لا يُقدّر بثمن من قبل منير ولا يطاق بالنسبة لموريل التي تجد كلّ قراراتها الامومية تحتاج للمرور ليس على رجل واحد ولكن رجلين في المنزل.
بهدوء يدفع لافوس ذلك المثلث المنزلي الخانق إلى نقطته الحرجة، ويصبح واضحاً أن الفيلم ليس مجرد قصة مرعبة مستقاة من عناوين الجرائد ولكن دراساً أكثر عمقاً وعالمية لأسرة غير تقليدية وهشاشة التوازن بين جنسيها مع مخاوف دينية مبطنة تحضر في الصورة. ربما تستفز موريل المشاهد الأوروبي بعدم انفصالها عن زوج غير كفؤ أو على الأقل التعبير عن تحفظها بشكل أكبر تأثيراً، ولكنها تبدو أيضاً وقد أُخذت بتعاليم زوجها الإسلامية أكثر مما يفعل هو. العديد من السينمائيين الأوربيين يمكنهم معالجة نفس القصة بصورة أكثر تطرفاً ومغالاة ولكن لافوس يتعامل بالجدية المناسبة مع قصته ولا يتساهل في إطلاق أحكام مجانية على أضلاع المأساة الثلاثة.

طاهر رحيم صموت بفعالية في دور خانق أكثر مما اعتاد الجمهور المتابع مشاهدته، ونيلز أريسترو يعيد الأداء الديناميكي كشراكتهما السابقة، ولكن إيميلي دكوان هي التي تقود الدراما. بشكل واضح أكثر نضجاً وأنثوية مما كانت عليه قبل ثلاثة عشر عاماً حين قدّمها الأخوان داردان في (Rosetta, 1999)، مع ذلك ظلّت تلك الطلّة البناتية وتقلّب العيون البريّة التي جعلت من إحساسها المتنامي بالأسر في منزل الزواج المقترض محسوساً بصورة ضاغطة. تقوم بتصوير عجز موريل التدريجي عن التحكم بحياتها وتبوير إنسانيتها دون اللجوء في أي وقت للمبالغة في أداء النوبات العقلية المضطربة.



في أحد المشاهد المهمة، تقود موريل سيارتها في طريقها للمنزل. تتابعها الكاميرا في لقطة طويلة تستمع للراديو الذيع يذيع أغنية "Femmes Je Vous Aime" تغني مع كلمات الأغنية" حين يبدو ان كلّ جرح سيبقى إلى الأبد.. أعرف فقط النساء الهشّات والصعبات، ليس البسيطات منهم" وفي لحظة رائعة تنهار موريل باكية. ربما لانتباهها إلى السخرية الذكورية للأغنية، وربما لإدراكها بأن المودة ليست في كتالوج حياتها وأن الهروب مستحيل. يمكن الإشارة إلى الطبيب كرمز للمركزية الاقتصادية في فيلم يخبرنا ان الرأسمالية ذات طبيعة أبوية بالضرورة وتقوم على هيراركية يتفوّق فيها الذكر.
في أمريكا أية نجمة سينمائية ستؤدي نفس المشهد من شأنه أن يجلب لها أوسكار أفضل تمثيل على الفور. دكوان المستحمة في ضوء أبيض يبرز ذهولها؛ مع الدقائق المارة تعطي شخصيتها حضور شبحي وتتألق في تصوير اغترابها، تتحوّل تدريجيا إلى ميديا العصر الحديث. سوادها يتكشّف تدريجيا بلقطات مقربة يداوم عليها المخرج لتوريطنا في حياة موريل  مع استخدامه لباليتة ألوان هادئة بميلها نحو درجات الأزرق والرمادي لتأكيد الجليد العاطفي والإحباط الذي تحياه موريل.

اللقطات الليلية للمنزل تحمل طابعاً غريباً. في أحد المشاهد نرى الطبيب حاملاً واحداً من أحفاده (؟)،الظلام يشمل جسده بالكامل مع إطار مضي للجانب الأيسر منه. تكوين مرعب يحملنا إلى جماليات الكياروسكورو Chiaroscuro. نادراً ما تسمح الكاميرا باتساع الكادر لاضافة عنصر للسياق وتؤكد في كل لحظة على الانضغاط والكلاستروفوبيا (رهاب الأماكن الضيقة).
قتل الأطفال يتم خارج الصورة. تنادي الأم من الطابق العلوي على كل طفلة بلطف، في جلوسهن لمشاهدة الكارتون على تليفزيون المنزل (دائماً مصدر إلهاء، دائماً هروب، وعذر للدخول في محادثة). واللقطة الختامية للفيلم تنفتح على صورة تتسع للمنزل الذي يكتسي بلمحة ريفية بسيطة، نسمع صوت موريل من بين دموعها تعلم الشرطة بجريمتها عبر الهاتف. المنزل يبدو كسجن.
مع تترات النهاية نسمع ذلك المقطع الشعري “fac me vere tecum flere” من ترنيمة وقورة لستابت ماتر Stabat Mater قدّمها جوزيف هايدن Joseph Haydn في معالجته لأحد النصوص الدينية التي يشير لوقوف السيدة العذراء أمام صليب السيد المسيح. المعزوفة يؤديها هنا تريفور بينوك Trevor Pinnock بحزن خالص. البيت الذي يقول " Make me truly weep with you" يتحدث للمشاهد بشكل خاص؛ ليس عن سمات مشتركة تجمع بين موريل ومريم العذراء (والتي بالمناسبة صورتها المفروضة على النساء ربما تكون جزءاً من مأسسة اضطهادهن)، ولكن عن حزن النساء كلهن ومن هنا يأتي التأسّي المشترك.




الفيلم: À perdre la raison
المخرج: Joachim Lafosse
إنتاج: 2012




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق