28‏/7‏/2015

"أكثر الأعوام عنفاً": يوتوبيا قذرة



العام هو 1981 والعنف الذى وصل لمعدل قياسي في نيويورك : أكثر من 120ألف ألف بلاغ سرقة و2100 حالة قتل ناهيك عن أزمة الإيدز التي على وشك أن تبدأ. The Warriors يعودون إلى كوني آيلاند منشغلين بتحويل قصتهم إلى لعبة فيديو، إمرأة تقلّم أظافرها في عربة مترو مغطاة بالجرافيتي، سوزان فيجا تقضي الكثير من الوقت في Monk's Diner وتحاول كتابة أغنية جديدة. عبر المدينة يحاول أبيل موراليس شراء أرض ميعاد من إحدى الجماعات اليهودية السرّية.

يعرف المخرج والسيناريست جي سي شاندور/ J.C. Chandor البيزنس الضخم والرجال الصغار الذين يصنعون طريق صعودهم كذلك. في مكان لا يبعد كثيراً عن وول ستريت فيلمه " Margin Call, 2011"، ولكن نفس الحمولة الأخلاقية نجدها في الفيلم الجديد. أوسكار إيزاك/ Oscar Isaac - الذي يستطيع تقمّص الثمانينيات كما فعل من قبل مع الستينيات (Inside Llewyn Davis, The Two Faces of January)- يلعب دور أبيل موراليس، مالك شركة ستاندرد أويل (شركة تدفئة في إزدهار سريع)، أندردوج (underdog ) يبلي بلاء حسناً ولا يحتاج نصيحة بالضرورة فهو قادر على إلقاء الحِكَم: "حينما يكون من المخيف أن تقفز، يُصبح من المحتّم عليك وفي تلك اللحظة بالضبط أن تقفز، وإلا فإنك تبقى في نهاية المطاف وطوال حياتك في المكان ذاته". موراليس رجل أعمال طموح، دبلوماسي، أنيق ببذلة مزدوجة الصدر ومعطف جملي اللون؛ وضع كل بيضاته في سلة واحدة لتأمين الاستقرار المالي لعمله، عائلته، وحلمه الأمريكي العظيم. على بعد بضعة أيام من إنجاز صفقة عمره بامتلاك محطة وقود كبيرة على ضفة نهر الشرق East River) ) والفضل يرجع لعقد استثنائي -يوافق عليه بثقة- في سبيل الحصول على ما يريده، الأمر الذي يثير حفيظة منافسيه ويتم اعتراض حاويات شركته وخطفها وسرقة بترولها. فرص اقتراضه البنكي تتضائل بسبب الخسائر واحتمالات التصعيد القضائي ضد شركته على خلفية تهرب ضريبي. أشهر الشتاء الطويل تبدأ وموراليس يواجه صعوبة دون الخنوع للجريمة المنظمة (عائلة زوجته التي لن يراها المشاهد أبداً).  زوجته ومحاسبته آنا (جيسكا تشستاين/ Jessica Chastain بتأنّق وفعالية)هي ابنة ذلك المافياوي الذي اشترى موراليس شركته، حين لا تكون مشغولة بسيجارتها أو منكبّة على سجلات الشركة مع آلتها الحسابية، فإنها تحث موراليس على الخوض في ممارسات تجارية خطرة. بعد محاولة فاشلة لاقتحام منزلهما تشتري مسدساً وتكون واحدة من ضمن آخرين ينصحون زوجها بتسليح أسطول سائقيه. تفقد تدريجياً هدوءها البارد وتكتسب الزخم اللازم لتقول "لن تحب أبداً ما سوف يحدث إذا دخلتُ في الموضوع". ليدي ماكبث حديثة لن تدع ليلة السبت تمرّ دون مفاجأة حين تنهي عذاب آيل جريح أمام سيارتهما برصاص مسدسها.

تلك المخاطر المتزايدة والتهديدات التي تلوح في الأفق، وضعت في سلسلة من المشاهد تبدأ بشخصية تقول "كما تعلم/ As you know "، ولكن قيادة المخرج للجو العام وسير فيلمه تعوّض بعضاً من هفوات نصّه، حيث يأخذ الفيلم فوراً نبرته المشدودة وثقله المتأني مع تزايد الترُقّب القلِق والانشغال بثيمة الأخلاق ومعناها وقوانينها الناظمة.

هذا فيلم كان من المفترض أن يكون أوسكارياً –بمعايير الاكاديمية نفسها- عنوان مثير ومستفز، بيئة أوائل الثمانينيات وحبكات مضمنة لعصابات الجريمة المنظمة. فيلم شاندور الثالث يبدو واعداً وطازجاً مقارنة بمحاولات تقليد أسلوب مارتن سكورسيزي التي جعلت فيلماً عادياً مثل American Hustle يتحصّل على حفنة من الترشيحات الأوسكارية قبل عامين. عموماّ تلك أذواق أعضاء الأكاديمية الأمريكية وهي ليست مهمة أو مفيدة بالضرورة. هذا فيلم نادر في استحقاقه الاهتمام لما لا يحتويه بالأساس. العنف هنا بدون ألعاب المسدسات والرصاص، تدور أحداثه في فترة محددة جداً ويرفض إغراء فتشنة (fetishism ) تلك الفترة (يمكن للقاريء إسترجاع العديد من الأفلام الأمريكية التي قتلت فترة الثمانينات حنيناً وسخرية كذلك). بالتأكيد هو فيلم نيويوركي ولكن مانهاتن دائماً على الجانب الآخر للنهر أو في الأفق البعيد، والأكثر إثارة من كل ذلك هو اهتمامه فعلاً بطريقة العمل التجاري " business of business".

يبدو الفيلم من بدايتة غارقاً في مفارقة تضع التقدم الاقتصادي وتراجع المجتمع المتحضّر جنباً إلى جنب. الاذاعات تعلن عن جرائم القتل والسرقة والاغتصاب والطعن العشوائي في أنحاء نيويورك، في الوقت نفسه يلتقي موراليس بمحاميه (ألبرت بروكس) لتوقيع العقد الجديد. "استيقظت اليوم بشعور جيد حول هذا" يقول المحامي قبل أن يدخلا مقطورة معتمة لدفع عربون الصفقة. "الآن قد وضعت كل ما أملك، أحب ذلك" يضع موراليس جلّ مدخراته من أجل الصفقة بانتظار القرض البنكي لترسيم العقد في غضون ثلاثين يوماً.

مثل أعمال بينيت ميلر /Bennett Miller الخالية من الجنس، يعمد شاندور لتقليل الدراميات وينزع نحو رمزية ثقيلة وفاقعة أحياناً. ميلر الذي يضايق شخصياته بايقاعات جنائزية وتعبيرات بدنية حادة (براد بيت ومضغه المجنون في " Moneyball, 2011" شانينج تاتوم وأسنانه السفلية وراء العلوية في " Foxcatcher, 2014") يشابهه شاندور بتوجيه شخصياته لمواقف تؤكد معضلاتهم الأخلاقية الوجودية وتعلي من تأثيرها على سير الأحداث: روبرت ريدفورد ونزالاته مع الحياة البحرية والنمط الإستهلاكي في " All Is Lost, 2013" يبقى مثالاً إستقطابياً يمكن إشراكه مع حادثة صدم الآيل بسيارة يقودها أبيل موراليس في " أكثر الأعوام عنفاً". ولكن بينما يقوم ميلر بوضوح في "Foxcatcher" بانتقاد "القيم الأمريكية" على حساب نوايا شخصيات الفيلم؛ فإن شاندور يثابر باصرار على مسألة أولويات شخصياته على إمتداد أمثولاته عن الفساد الأخلاقي المتأصّل للرأسمالية.


المصوّر السينمائي برادفورد يونج/ Bradford Young يصوّر محادثاته في غرف خافتة الإضاءة، تقابلها ممرات ساطعة وامتداتها الخارجية، شوارع مدينته قاحلة وباردة رغم دفء الغروب البرتقالي. العنصر البصري هو انعكاس صارخ لكلّ من مزاج موراليس ومعضلاته الأخلاقية: بمعارضته العنيدة للخداع والسلوك الاجرامي؛ يمكن لموراليس رؤية عمله وسمعته من خلال شرنقة النبالة. ولكن قوى خارجية تخدش تلك الصورة حين يدرك أنه سيكون مضطراً ليس للاقتراض فقط ولكن التضرّع وحتى السرقة من أجل شقّ طريقه في "أرض الأحلام"، لابد أن تتسخ يده. أولى مواجهاته مع ذلك الواقع تأتي مع ذلك الآيل الجريح على الطريق في الليل، والثانية في مطاردة نهارية بالسيارة وعلى الأقدام في أطراف المدينة.

ولع شاندور بالمفارقة الظرفية يكتسب توكيله من كفاءة اسبرطية لطريقته الاخراجية ومعظم ممثليه كذلك. شخصية آنا تمت إساءة إدارتها، تظهر في لحظات درامية صغيرة في حين تكون أكثر ملائمة للدخول في السرد. كذلك موراليس؛ شخصية مثيرة للفضول بدون خلفية إجتماعية وعرقية واضحة. يبدو إيزاك مصبوباً في الدور وتم غرسه في الفيلم خارجاً من أفلام مارتن سكورسيزي الثمانينية، يؤدّي تلك المونولوجات التعبيرية الجادة عن كيفية النجاح في العمل محتفظاً بالنزاهة حتى بعد أن بدا واضحاً أن الطريق الوحيد للحفاظ على إسمه التجاري هو الابتزاز والعمل القذر. في تقليد لآل باتشينو ودوره الخالد مايكل كورليوني، يبدو أن بوصلة موراليس الأخلاقية تعطيه قدرة بدهية على خداع الذات، ومقدرة على إعادة تقويم تلك البوصلة بأقل قدر من تدمير الصورة الذاتية. أداء صارم ومقنع يركّز كلياً على الأبعاد الأخلاقية لمسألة إتخاذ القرار. يؤكد الفيلم على أن مثل ذلك العمل يتطلّب الفساد، ولا يتأتي تشويقه المعتبر (نظراً لنوع الفيلم دراما، جريمة، أكشن) من خلال كيفية التصرّف ولكن من سؤال سابق حول إمكانية الإضطرار لقبول إختيار ما.

«أكثر الأعوام عنفاً» يعطي نظرة فاحصة على عالم ملتوى ما من شيء فيه مستقيم وواضح رغم كل النوايا الطيبة ولا ينفكّ يعيد التذكير بقصة فاوست الذي باع نفسه للشيطان. التصوير في أجواء شتوية كئيبة وباردة يعطي شعوراً بخطر التجمّد حرفياً وأخلاقياً كذلك. تصميم الإنتاج (production design ) يحتاج تحية. موسيقى Alex Ebert المستوحاة من فريق Suicide معبّرة وكاشفة. إيزاك يمنح إتصالاً بصرياً أصيلاً، وتشستاين تسرق العرض حين تظهر. ولكن جوّ الفيلم المتقلب والتمثيل الجيد لا ينقذان سيناريو الفيلم الذي يحتاج لعمل أكثر.

الفيلم: A Most Violent Year
تأليف وإخراج: J.C. Chandor
إنتاج: 2014

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق