24‏/2‏/2016

"Mustang": كلاستروفوبيا الأنوثة التركية


السعي السينمائي للقبض على أجواء الصيف والحرية والشباب هو أمر معتاد على الشاشة؛ من الأفلام الروائية إلى الإعلانات التي تشبه أحلام اليقظة. المخرجة، تركية المولد فرنسية النشأة، دينيز غمزي إرغوفين تقوم بعمل جيد في هذا الصدد في المشاهد الافتتاحية من باكورتها الإخراجية ماستانج .(Mustang)
نتعرّف على بطلات الفيلم واحدة بعد الأخرى: خمس شقيقات صغيرات يخرجن من المدرسة بشعورهن الطويلة في نهاية العام الدراسي إلى شاطئ البحر الأسود القريب، يتشاكسن ويضحكن معًا ويرششن المياه ويتعلقن بأكتاف مجموعة من زملائهن الذكور. الروح الديونيسية والإحساس بعناد وخِفّة تلك الأيام الذهبية والصداقة الحميمة بين الأخوات في هذه المشاهد تصبح نقطة عبور لبقية الفيلم: في غضون دقائق، تنحسر حريتهن فور وصولهن للمنزل والالتقاء بجدّة قلِقة (نهال كولدس) وعمّ محافظ وعصبي المزاج (إيبرك بيقجان) يريد فرض سيطرته على الأنوثة اليانعة في أجساد بنات أخيه المتوفّى ولا يمكنه السكوت عن نميمة الجيران، فاللعب والمرح مع زملائهن الذكور يسمحان برمي البنات بالفسق والانحطاط. غضب الجدّة، رغم العقاب الجسدي، يتبيّن أنه وقاية لهن من عقاب أشدّ وطأة سيأتي من قبل العمّ المحافظ.
تتعرّض الشقيقات للسجن داخل المنزل حرفيًا، ويتم التخلّص من السموم الخارجية، التليفزيون الهواتف الخلوية والماكياج، ليتحوّل المنزل إلى "مصنع للزوجات": سريعًا يتمّ إعداد طبق الدولما (لحم وأرز متبّل محشو في أوراق الكرنب) وفحص غشاء البكارة للتأكد من سلامته، وترتيب زيجات البنات الأكبر. يتحاشى السيناريو إحساسًا واضحًا بوقتية الحكاية لصالح تعزيز فكرة مشابهتها لاستعادة مكرورة لخرافة ما، لتتوسّع تداعيات تلك الحكاية الكلاستروفوبية لتتزوج الشقيقات واحدة بعد الأخرى في نمط يبدو غير قابل للانكسار.
لا تخضع الفتيات من دون قتال وضجة ففي النهاية هن خمس باسلات يقفن في مواجهة قهر بطريركي؛ عنوان الفيلم هو إشارة صريحة إلى أرواحهن غير المروَّضة ومعنوياتهن غير القابلة للانهزام، لا يخفن من رفع أصواتهن ضد النفاق المحيط بهن. بعد "الفضيحة" الأولى، يحطمن كراسي المنزل لإثبات وجهة نظر صارخة؛ "هذه الكراسي لمست فتحات مؤخراتنا، أليس ذلك مثيرًا للاشمئزاز؟". وبينما تحكم الجدران عزلتهن، تستمرّ الفتيات في تنظيم حركات تمرّد صغيرة، سواء بالهرب لمشاهدة مبارة لكرة القدم أو في الزواج عن حب حقًا، حتى لالي، العفريتة الصغيرة، تضع خطة هروبهن.


الفيلم حيوي وميلانكولي كذلك، وقد ركب موجة النجاح الحاسم منذ عرضه الأول في أسبوع النقاد بمهرجان كان السينمائي الدولي وتكلّل بالعديد من الجوائز، كما تجاوز فيلم "ديبان" لجاك أوديار المتوّج بسعفة "كان" الذهبية هذا العام لتختاره فرنسا لتمثيلها في سباق الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي في خطوة أثارت استغراب الكثيرين (الفيلم ناطق بالتركية وصوّر في تركيا وصنّاعه وممثلوه أتراك، والتمويل فقط هو الشيء الفرنسي في الفيلم إلى جانب منتجين من تركيا وألمانيا وقطر).
مثلما يقول مارك شولز "السينما لغة تمكننا من الحديث عن الطريقة التي نرى بها العالم"، تختار المخرجة نتفًا من سيرتها العائلية لتنسج حكاية فيلمها وقصة الشقيقات الخمس وحرمانهن من حرياتهن الأساسية بعد الزواج ودور المرأة في مجتمع أبوي منعزل. تختار إرغوفين نظيرتها لالي، حيث كانت المخرجة أصغر بنات أسرتها، وتُلبسها وجهة نظرها للأمور في مجتمع محافظ يرفض هجر أعرافه بينما يتشكّل جيل تركي جديد يسعى لأوروبة نفسه.
في أحد اللقاءات الصحفية مع المخرجة تقول: "أحيانًا يأتي أحدهم ويقول معترضًا: "ولكنه (الفيلم) إيروتيكي جدًا". ولكن فرض مدلول إيروتيكي على الجسد الأنثوي هو مكمن المشكلة التي يسعى الفيلم لمعالجتها. هناك تلك الثقافة الجنسية التي يتم النظر من خلالها إلى النساء في تركيا. كلّ حركة وكلّ فعل كلّ شبر من الجلد.. يتم فعل ذلك بطريقة اختزالية للغاية".
الفيلم يقدم بورتريهًا لذلك الصبا والشباب مع عين حريصة على الجمال في اختيار اللقطات والزوايا وهنا تجب الإشادة بالمصوّر الفرنسي ديفيد تشازلي الذي جمّل الفيلم بألوانه الحسّية الحارة وإضاءته الوضّاءة (يمكن بسهولة وضع الفيلم في مقارنة مع "انتحار العذراء" لصوفيا كوبولا وكلاهما يتشابهان في الثيمة ومرئياتها الحلمية والرقيقة).
لا تخفي المخرجة، التي تقيم بفرنسا، انحيازها للتقاليد والقيم الأوروبية ولعل ذلك يتبدّى على مستوى أعمق في "ماستانج" الذي يبدو متكلّفًا واضطراريًا في حلوله وسردياته حيث تنحدر قرارات السجينات المراهقات إلى مستوى عالٍ من السخافة واللامعقولية، وتأتي الحقائق القاسية لحياة نضرة مقموعة بسلطة أبوية من أجل ضحكات مجانية أشبه بتنفيس مؤلم. شعبية الفيلم لا لبس فيها ومدى قبوله لدي كثير من المشاهدين لا يمكن إنكاره، وأزيز ذلك التصدير لفكرة الصدمة الوطنية والثقافية ليس بجديد على أفلام تحتفي بها المهرجانات والجمهور على السواء. ربما يفوز "ماستانج" بأوسكار أفضل فيلم أجنبي، من يدري.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق