8‏/3‏/2015

" Starred Up".. لمّ الشمل وراء القضبان




في العرض الأول للفيلم في الصالات الأمريكية تم توزيع قاموس شامل للمصطلحات العامية المستخدمة في السجون الايرلندية على النقّاد قبل العرض. الفيلم الذي يحتوي الكثير من الكلمات والتعابير المبهمة والتي تستخدم كمجازات لا يفهمها سوي العالمين بدلالاتها لن يمنع مشاهده من الدخول في أجواءه رغم تلك "الخصوصية" الايرلندية لأن المخرج الاسكتلندي ديفيد ماكينزي David Mackenzie يصوّر ثقافة السجن العنيفة بوضوح جارح لن تجعل شيئاً يضيع في الترجمة.

العنوان ربما هو المصطلح الوحيد الذي تودّ معرفته: “Starred up” يشير إلى مجرم مراهق ولكنه جامح وصعب المراس لدرجة ترحيله من سجن "حديثي السن" إلى سجن الكبار. إريك (النجم الواعد جاك أوكونيل Jack O’Connell) هو واحد من هؤلاء المراهقين الذين تحدس بكونهم مثيرين للمشاكل منذ طفولتهم، ملاكم شاب في التاسعة عشر، عصبي وواسع الحيلة؛ وعلى الفور يبدو للمشاهد أن تصرفاته ليست نتيجة كونه سجيناً أو معتاد إجرام ولكن بسبب من تنشئته المضطربة في نظام متصدع. يسير إريك بداخل مجمع سجون يخضع لنظام معقد من اجراءات الحراسة المشددة كما لو كان قد أعدّ نفسه للسجن طيلة حياته لكن من الدقة أن نقول حياته كلها هي من أعددته للسجن. ولو أن للأسرة عملاً تبرع فيه فهو السجن، فوالده نيفيل (بين مندلسون Ben Mendelsohn) "يعيش" في زنزانته التي تقع في الطابق الأسفل من السجن. الأب وابنه لم يلتقيا منذ كان الأخير في الخامسة من عمره.

هذا ليس لم شمل الأسرة السعيدة. لا يتشارك إريك ونيفيل روابط أسرية قوية بقدر حذرهم المتبادل: الوالد الذي يبدو كضابط حاسم في مجتمع السجن يرفض القيام بأي شيء يحول دون وقوع ابنه في أيدي عصابات السجن المتناثرة، إلى أن ينضم إريك لمجموعة العلاج النفسي للسجناء. هنا يبدأ الأب في التعريف بحقيقة علاقتهما. فكرة أنه قد تتم قولبة ابنه من قبل سجناء آخرين (من أجناس أخرى) ليست سوى اعتداء مباشر على ما تبقى من كبرياء نيفيل كأبّ.


اجتذبت السجون والاصلاحيات السينما نظراً للفوضى والخطوط الواضحة في علاقات يمكن بناء الحبكة عليها؛ لذلك ليس سهلاً صنع دراما سجون في فيلم يبدو جديداً كليةً. ولكن " Starred Up " مفعم بالحيوية جزئياً لأن مخرجه انحاز للواقعية أكثر من الحداثة باختياره استعارة بعض التمهيدات من كلاسيكيات الجينر genre إلى أن تكتسب قصته ثقلها بنفسها: أصداء روبير بريسون Robert Bresson وفيلمه A Man Escaped تتردد في عزلة إريك وهياجه المستمر والمدى الذي يحتاجه للبقاء من خلال اعتماده على سلسلة من الايماءات الحذرة. ستيف ماكوين Steve McQueen وفيلمه الأول Hunger يوفر ارتكازاً مناسباً أكثر حداثة وأقرب جغرافياً، ويظهر تأثيره في الصرامة القاسية لتراكيب ماكينزي وتركيزه على وضع عنق الزجاجة الذي يحقق به فورة شعورية لدى المشاهد. كما يمكن النظر للفيلم كاعادة سينمائية -أقل ورعاً ووعظاً- للفيلم الأيرلندي الشهير In the Name of the Father حيث الأب والإبن يصفيّان الأجواء بينهما بالدخول في عراك بالأيدي ثم يقتاد كل منهما إلى زنزانته بوجه تغطيه الدماء ويسخران من المقدرة الجنسية لبعضهما.

ولكن حتى وإن كان الفيلم يدخل لمنطقة معلومة سلفاً، فانك أبداً لا تشعر أنه مستنسخ مع تجنُّبه للرسالة المعتادة والمتكبرة عن فوضى أبناء الأباء السيئين الذين يتلّقفهم مستشاري الطبقة الوسطى و"خبراء" آخرين لتهذيب فوضاهم. مشاهد المجموعة في جلسات العلاج تبدو حقيقية. الفيلم كله يبدو مُسيطر عليه من لحظات البداية الأولى التي تستحضر شعور الوصول للسجن –المسيرة الطويلة حتى وصول الزنزانة، غلق الأبواب وفتحها، سجين جديد يرتب سريره، التحقق من اعدادت المكان الجديد ثم ببساطة انتظار  السنوات التي ستعبره في ذلك المكان-.  بالطبع يشابه الفيلم أخوته من أفلام السجون في تفاصيل معتادة من هجمات أثناء الاستحمام، لضرب الوافد الجديد للسجن في يومه الأول مروراً بمأمور السجن الشرس (وهو ما تتحقق صدقيته هنا حيث عمل مؤلف الفيلم جوناثان آسر Jonathan Asser كمعالج نفسي في أحد سجون لندن). وحتى هنا لا يبدو اللجوء للكليشيه على قدر كبير من السوء، لأن الجو العام الخانق يجعل من تنازل الفيلم لصالح كليشيه سينمائي فرصة رحيمة لدخول بعض الهواء النقي.

إنه من الصعب تجهيز نفسك لمشاهدة تجربة كتلك، ولكن الفيلم يبدو أكثر إثارة بالنظر للرجل الذي صنعه: ديفيد ماكينزي، الذي تناول الايروتيكية العاطلة في فيلمه  Young Adam (2003) ورومانسية مغلّفة بأجواء الهيبيز في Tonight You’re Mine (2011) من دون أن ننسى رومانسية نهاية العالم في Perfect Sense (2011)، يبدو كآخر مخرج قادر على انجاز فيلم كهذا، أو حتى يهتم بالعمل على هكذا قصة. بشكل ما، فإن قصة ذلك الولد الذي يُدفع به إلى الحد الأقصى لسقف امكانياته هي بورتريه ذاتي لذلك المخرج الذي تتفجر طاقاته من خلال سقفه الخاص. والآن، في النهاية، ماكينزي مخرج ناضج يمكن الاطمئنان إلى القول بأنه لن يضطر للعمل على كارثة أخرى لأشتون كارتر Ashton Kutcher.

ومن ناحية أخرى، يتمنى الواحد أن يعاود تعاونه مع الممثل الصاعد جاك أوكونيل في المستقبل. أداء أوكونيل مذهل في تجسيده للشباب المهدر بين جنبات سجن يتنقل عبر طرقاته مثل كوكتيل مولوتوف محترق في معركة ليس فيها فواصل للراحة. مشاهدة إنسانيته المعذبة في صعودها البطيء إلى السطح؛ واحدة من الرحلات الملحمية التي ستراها تدور بين أربعة جدران. ومندلسون كذلك يترابط بشكل جيد مع غريمه الأليف، في تجسيده لنيفيل، المسجون مدى الحياة، الأب الذي يجد شيئاً يعيش لأجله ويرفض أن تضيع الفرصة من بين يديه، ككلب يزبد أمام عظْمته الأخيرة في العالم. يكوّن أوكونيل ومندلسون شراكة ديناميكية يتجاوزها الفيلم بدون داع في فصله الأخيره لصالح تعزيز حضور شرير أساسي villain بشكل مفتعل لتقديم المزيد من الغرماء في حكاية ولد يعادي بطبيعته كل من يلتقيهم. ومع ذلك، ينتهي الفيلم بلكمة قوية أخيرة مع لحظة تلخّص كلّ حنان سيئي الحظ لتجعل ذلك الفيلم جديراً بالمشاهدة.


في الفكرة وتصويرها

في أفلام ماكينزي تأصيل لفكرة الحرية: شخصياته تتصرّف على نحو غير متوقع، وغالباً ما يغيّرون مسار حياتهم لمجرد نزوة، إضافة إلى حرية كاميرته في حركتها  والأداءات البدنية لممثليه تحيلنا إلى عالم يفيض بالاحتمالات. يمكن للمرء بسهولة تصوّر فيلم سجون يخرجه ماكينزي: منمّق، مجهد، غير مقنع. ولكن " Starred Up " مميز جداً كدراسة شخصية عن معنى الحياة وراء القضبان. واحد من مواضيع ماكينزي الدائمة هو كيف تحدد طريقة عيش الانسان استخدامه لجسده. في فيلمنا يطبق تلك الرؤية على السجناء طويلي المدة بشكل ما، وتصوّرهم كمسوخ حديثة: نصف إنسان، نصف آلة.

ومع ذلك، رؤية ماكينزي لا تطغي كلية على العمل، لأن مؤلفه جوناثان آسر يستند على وقائع شخصية اختبرها أثناء عمله السابق. آسر  الذي كتب سيناريو الفيلم ليصبح بورتريهاً رسمياً وموثوقاً للحياة داخل سجن بريطاني، كان متوجداً أثناء تصوير الفيلم لمتابعة كل تفصيلة للتأكد من دقة النقل والتنفيذ. بالنظر للفيلم كوثيقة درامية docudrama عن تحديات التنشئة الاجتماعية للمدانين بالعنف، فإنه ينجح في ذلك بأقل قدر من السنتمنتالية والابتذال الرخيص للمشاعر. في الواقع إن إريك، البطل أو البطل الضد، يقاوم ذلك التعاطف المحتمل طيلة النصف الأول من الفيلم إلى أن يتعرّف إلى أوليفر (أداء جيد من روبرت فريند Rupert Friend)، معالج السجن الذي يتطوّع بوقته وجهده لمساعدة مجموعة من نزلاء السجن ذوي النزعة التدميرية. ولكن حتى ذلك التغيّر لا يحدث فوراً كالحب من أول نظرة ولكن بعد العروج على بعض الأسئلة الشائكة التي يلقيها الفيلم في وجوههنا، فإريك الذي قضى أغلب حياته في السجن لا يعتقد بامكانية اعادة تأهيله للاندماج في المجتمع. كما أن أوليفر لن يعدم تساؤلاً استنكارياً عن جدوى ما يفعله والفائدة التي يتحصّل عليها هو شخصياً؟

آسر كذلك لا يكشف عن علاقة إريك ونيفيل إلا بعد مرور نصف الساعة، وحتى الدقيقة العشرين نحن لا نعرف شيئاً عن خلفية إريك. حتى تلك اللحظة، يحاول توريط المشاهد في تجربة الحياة داخل سجن يخضع لحراسة مشددة، حيث التهديد الدائم بالعنف والخزي يسحق أي احساس بالماضي أو المستقبل. بعد ثواني فقط من بداية الفيلم، يتم تسليم إريك، تعريته من قبل الحرّاس، يخضع لتفتيش جوفي cavity في مشهد يستدعي المزارعين الذين يتفحصّون ماشيتهم. المخرج من ناحيته، يعرض تلك الأحداث في زمنها الحقيقي مؤكداً على اللا انسانية التي يقدم إريك على اختبارها بشكل دوري. الكشف عن نسبه وأعوامه التي قضاها في دار الرعاية (هناك حيث تم اغتصابه على يد أحد الحرّاس)، قد لا يغيّر من انطباعنا المبدئي عنه ولكنه يظلّ مدهشاً؛ لأن المشاهد الأولى تجعل من الصعب تصديق أن إريك قد اختبر شيئاً مما يمكن وصفه بـ"طفولة".

بعد لقطات مختصرة ومحددة تنقل للمشاهد ذكاء وتخطيط إريك بعقلية تراهن على النجاة من أجل البقاء في محيط يسوده العنف، يطلعنا ماكينزي على شجاره الدموي الأول والذي جاء بطريق الخطأ مع أحد السجناء ما يستدعي في النهاية  الاستعانة بفرقة لمكافحة الشغب لمحاصرته ويرفض إريك الاستسلام لينقض على أحد الحرّاس قابضاً على خصيتيه بين أسنانه. كعادته يخلق ماكينزي احساساً بالزخم النشط: يقطع بخفة من تفصيل صادم إلى آخر ، كاميرا رشيقة تتحرك لمتابعة الشخصيات من غرفة إلى غرفة. حتى استخدامه للّون يضيف إلى التأثير البصري للفيلم: تستخدم أفلام السجون عادة اللونين الرمادي والأزرق للزنازين، ولكن ماكينزي يستخدم اللونين الأصفر والبرتقالي، وفي بعض المشاهد المتوترة يستعين بالاضاءة الحمراء الداكنة، أما الغرفة التي يجتمع فيها أوليفر مع المجموعة فقد طليت بظلال خضراء باهتة. ونتيجة لذلك فإن الحالات الشعورية الحادة للسجناء تبدو ملموسة تقريباً.


العنف هو جزء من الواقع اليومي للسجن ولا يختلف في ذلك عن الكلام. حياة السجناء وسط العنف لفترة طويلة تجعلهم مستعدين للقتال في أية لحظة. إريك يبدو كأنه لا يعلم متى يجب عليه ألا يقاتل وماكينزي يلتقط ذلك الخيط ويصله باللغة الجسدية لممثله دافعاً الأداء البدني لصدارة الصورة وبمثل ذلك التفصيل فإن الفيلم– تقريباً-  يقترح في مشاهده القتالية باليها متوحشاً.  ورغم أن البعض قد يميل لبناء أكثر قسوة للبطل مثل Bronson (2008) للمخرج المبالغ في تقديره نيكولاس فيندنج ريفن Nicolas Winding Refn ، فان ماكينزي لا يكره بطله بل يضيف لشخصيته أبعاداً تبعد عنه النمطية، فهو يعرف كيف يكون محترماً ولبقاً حين يستدعي الأمر ذلك.

في النهاية، لحظات الفيلم الرائعة ربما تكون هي تلك الهشاشة الجسدية التي تبرز مثل ومضات من اللون في فيلم مصوّر بالأبيض والأسود: متوالية قصيرة ومفاجئة لإريك وحيداً في زنزانته، يقفز ليلمس السقف أو يصنع وجوهاً مضحكة لتسلية نفسه. تلك اللحظات النادرة تمهّد لتحوّل الفيلم العاطفي في المشهد قبل الأخير وفيه يتصالح إريك ونيفيل أخيراً (ولكن ذلك يحدث وهم على وشك الانفصال من جديد) يمسدّان رأسي بعضهما بلطف بدلاً من الاحتضان بالأيدي المكبلّة خلف ظهريهما. للمفارقة، الصورة تستحضر أم أحد الحيوانات تداعب صغيرها، وتظهر عودة الأب والابن لاستصلاح علاقتهما حاجتهما للحب love، والذي للمفارقة أيضاً هو الاسم الثاني لكل منهما.

بينما يعطي نص آسر بنية درامية محكمة للعنف المتفشي في السجن فإن اخراج ماكينزي ينبهنا إلى الوثوق بتلقائية الحياة حيث كل البشر قادرين على تغيير حياتهم أينما كانوا.


الفيلم: Starred Up
المخرج: David Mackenzie
إنتاج: 2013




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق