5‏/2‏/2015

"يومان وليلة".. الشجاعة من أجل الوجود





الطريقة الوحيدة لوقف البكاء هي القتال من أجل وظيفتك" يقول مانو (فابريزيو رونجيوني Fabrizio Rongione) لزوجته ساندرا (الرائعة ماريون كوتيار Marion Cotillard) في الفيلم البلجيكي "يومان وليلة". ساندرا، التي كانت في اجازة مرضية من عملها في مصنع لألواح الطاقة الشمسية بسبب معاناتها مع الاكتئاب، على وشك العودة إلى عملها عندما تتلقى مكالمة هاتفية –الفيلم يبدأ مع رنين الهاتف- تعلمها بأنه ما من وظيفة يمكنها العودة إليها. زملائها في المصنع صوّتوا لصالح حصولهم على مكافأة بدلاً من استعادتها لعملها. بمجرد أن تضع ساندرا سماعة الهاتف، تقول لنفسها "يجب ألا تبكي". ولكنها تبكي، وبغزارة. تتحطم رباطة جأشها كآنية زجاجية تتكسّر.

يبدو ذلك تمهيداً مألوفاً لمن يتابع عمل الأخوين جان بير ولوك داردان Jean-Pierre & Luc Dardenne، صاحبي "الوعد La Promesse" (1996) حيث واقع المهاجرين البائس في بلجيكا الجميلة،  "روزيتا Rosetta " (1999) وسعفة كان الأولى عن حكاية تلك الفتاة التي تسعى للحصول على عمل وحياة طبيعية بعيداً عن الفقر. في 2002 ينجزان "الإبن The Son" حيث يقابل الأب قاتل ابنه في ورشة للنجارة، وفي 2005 مع "الطفل L'enfant " الذي يبيعه أبوه. إلى المهاجرين مرة أخرى وحلم الحياة الأوربية في "صمت لورنا The Silence of Lorna " (2008) وصولاً إلى الابن الذي تخلى عنه أبوه في "صبي الدراجة The Kid with a Bike " (2011). أجواء يحيطها الفقر والعوز والتفكك الأسري وحلم الوصول، هي ما يعمل الأخوان في إطاره طيلة مسيرتهم السينمائية التي تابعت، وبشكل استثنائي، حكايات فقراء أوروبا. "يومان وليلة" يتابع تلك المسيرة الشهمة لاثنين من طليعة السينمائيين المخلصين للسينما الواقعية والاجتماعية. هما المثال الحديث الذي كان يمكن أن يكونه المخرج الكبير كين لوتش Ken Loach لو استمرّ في العمل مع سيناريوهات جيدة وأبدى إهتماماً أكبر بالشخصيات النسائية في أعماله. الجديد في هذا الفيلم هو تخلي "الداردانز" عن بعض من أسلوبهم الخشن لصالح آخر أوضح وأكثر أناقة في السرد والجمالية والأداء ولا سيما مع وجود ماريون كوتيار. التصوير بالكاميرا المحمولة كالمعتاد، وبأسلوب مينمالي حدّ التقشف. يستمدّ سحره من الضوء الطبيعي والتكوين المتقن. وكالمعتاد في وفائهما للصوت الموضوعي للفيلم، يكتفي شريط الصوت بالجوّ العام من دون موسيقى مؤلّفة سوى التي تأتي من داخل المشاهد. كوتيار، إلى حد كبير، الممثلة الأكثر نجومية التي تعمل تحت إدارتهما. كانت مهمتهما كما أشارا "أن يوصلاها إلى مستوى معين تصبح فيه إمراة عادية"، وقد نجحوا في ذلك إلى حد بعيد، رغم أن "العادية" ليست الكلمة المناسبة حين يتعلق الأمر بماريون كوتيار، التي من جانبها فعلت أقل القليل كي تبدو تلك المرأة التي قد لا تعيرها اهتماماً اذا قابلتها في الشارع.

كعادتهم في كل أفلامهم، صوّر الداردينز الفيلم في لييج Liège، الاقليم البلجيكي الناطق بالفرنسية، حيث كانت نشأتهما. في تلك المحيطات الإجتماعية الصغيرة والمغلقة على نفسها، تتابع الكاميرا ساندرا في سباقها –في الويك إند- لاقناع زملائها بالتصويت لصالحها وابقاءها في وظيفتها. التصويت الجديد سيتم في أول يوم عمل من الأسبوع الجديد: يوم الإثنين. هذه المرة بدون تهديدات رئيس العمال (يقوم بدوره أحد أضلاع الثلاثي التمثيلي المعتاد مع الأخوين، أوليفيه جورميه Olivier Gourmet). أغلبية العاملين يجب أن يصوّتوا لصالح ساندرا بدلاً من حصولهم على الألف يورو. الحوار يتكرر، من بيت إلى بيت تذهب ساندرا وهي تحارب كل نية لجسدها في أن يبدو متسولاً، رغم أنه -وللسخرية المريرة- هو ما يجب عليها فعله لاستجداء التعاطف من زملائها كل بدوره. السيناريو لا يترك فرصة للملل فهناك مستقبل على المحك. كل محادثة تكون مختصرة، مسرحية من فصل واحد، القليل مما يقال ولكن هناك الكثير للتفكير فيه. مثلما استيقظ جريجوري سامسا ذات صباح في رواية فرانز كافكا ليجد نفسه قد تحوّل إلى صرصار، يرمي الأخوان شخصياتهم في وجوهنا دون تمهيد. بشر من لحم ودم، باطلالات دالة على عوالمهم نتعرّف عليهم ونتوّرط في مأزقهم الحياتي. نرى أطفال حديثي الولادة، زيجات فاشلة وعلاقات مضطربة، مياومين في وظيفة ثانية لتحسين الدخل. نرى أمل وخوف، وقاحة وشهامة، اندفاع ودفاع. إذلال ساندرا وعدم راحة زملائها حاضرين دائماً في ذهن المتفرج.

"يومان وليلة" فيلم عن الواقع الذي نحياه يومياً والعالم الذي نعيش فيه، وكيف جعل كل واحد منا وحيداً، خاصة في العمل. والذي، على نحو متزايد، يتم اعتباره أو يُطلَب منا إعتباره كغرض الحياة الوحيد. تقول ساندرا أنها تريد العمل وليس "وحيدة تعيش على الاعانة" (Alone on the dole). ولكن احتمالية عودتها للعمل لا تطاق بالنسبة لها أيضاً. فكيف ستواجه –يومياً- كل هؤلاء الذين ضيّعت عليهم المكافأة المالية. مصحوبة بزجاجة مياة معدنية وحبوب الزانكس Xanax لتمرير كل الساعات الثقيلة القادمة، ولحظات اللقاءات المضطربة بزملائها. ليس لديها إتحاد نقابي للدفاع عن حقوقها. إذا كان يبدو لك كل ذلك وكأنه تمرين على البؤس لا هوادة فيه، فهو ليس كذلك. ما ينقله لنا الفيلم وشخصياته، بشكل تراكمي، هو نضال نحو الكرامة ومن أجلها.




ساندرا ساندرا

في نواح كثيرة، يمكن اعتبار ساندرا هي تلك الفتاة الصغيرة،روزيتا، وقد كبرت بعد خمسة عشر عاماً من الفيلم الذي حمل إسمها (في ذلك الفيلم لعب فابريزيو رونجيوني Fabrizio Rongione دور صديق روزيتا). ساندرا في المحطة الأخيرة من كفاحها ضد اكتئابها، تصطدم بخبر صاعق عن فقدانها لوظيفتها. "لا أستطيع التوقف عن البكاء" ساندرا تقول لنفسها أثناء سيرها في منزلها. هاتفها يرن وهي تحتاج حبوبها المهدئة. ساندرا ليست ضعيفة ولكنها خائفة من ضعفها. رغم قلة الحيلة والعجز عن الفعل، يقنعها زوجها وزميلتها جولييت، بمحاولة أخيرة لانقاذ عملها. عندما تلتقي رئيسها للمرة الأولى تبدو كما لو كانت تنكمش خوفاً من الكاميرا، تحاول الاختباء في حضورها. ما يبعد "يومان وليلة" عن كونه مجرد فيلم آخر عن امرأة مأزومة اقتصاديا واجتماعياً هو أن الداردانز أيضاً، وبمهارة، يقدمان بورتريهاً لزواج على حافة الهاوية. بعد رحلة متعبة، نفسياً وبدنياً، في اللفّ على بيوت زملائها، تصل ساندرا إلى لحظة تسرّ فيها إلى زوجها أن يتركها لحالها، تظهر حالتها البدنية السيئة في لقطة ثابتة في السيارة حيث نلاحظ معاناة ساندرا في أخذ نَفَسها لتبعد رأسها عن الكاميرا وتخرجها من نافذة السيارة إلى الهواء والضوء. مثل تلك الوقائع الفيزيقية (المشي، النبضات، الدفعات، الأجساد النابضة بالحياة) يجعل متابعة الحدث مثيراً ويؤشر إلى صياغة ميلودرامية محسوبة بدقة. وبينما نلاحظ الحركات المشتتة لإيميلي دكوان Émilie Dequenne في دور روزيتا، نجد تكثيفاً معاكساً في أداء كوتيار لشخصية ساندرا: مؤطرة في ذاتها ومتقلصة لداخل صدفتها الذاتية، صوتها يظهر بالكاد، كأنها تتكلّم همساً. ساندرا تعتقد بأنها لا شيء "I'm nothing. nothing at all" وإذا وضعنا زوجها المحب جانباً، فهناك القليل جداً في العالم يمكن أن يغير اعتقادها عن نفسها. يعادلها في الأداء رونجيوني: في مساحة تمثيلية أقل ولكن بمعالجة بارعة، يتجسدّ أمامنا ذلك الحب الكبير الذي يكنّه لزوجته التي يدفعها للخروج للعالم. استخدام تلك الاشارات الفيزيائية لتحديد العلاقة بين الزوجين (رغم عدم ممارسة الجنس) هو حيلة ذكية جداً لم أختبرها في أي من الأفلام التي قاربت مؤسسة الزواج. حين تصل ساندرا ليد مانو أثناء قيادته للسيارة فهي تقدم بذلك الفعل البسيط تكثيفاً لشعور الحب الذي ترفض ممارسته منذ شهور. هذا بعد لقطة أمامية نادرة للإثنين معاً على مقعد عمومي في إحدى الحدائق، يتشاركان الآيس كريم في ضوء الشمس، ثمة طائر ياتي صوت تغريده من خارج الكادر.
 ساندرا: أتمنى لو كنت مكانه
مانو: من؟
ساندرا: ذلك الطائر الذي يغنّي





الفيلم: Deux jours, une nuit
تأليف وإخراج: Jean-Pierre & Luc Dardenne  
إنتاج: 2014


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق