‏إظهار الرسائل ذات التسميات Review. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات Review. إظهار كافة الرسائل

15‏/11‏/2016

"أنا مع العروسة": مهاجرون ومخرجون بالصدفة


عرض مؤخرا بالعاصمة المصرية القاهرة الفيلم الوثائقي "أنا مع العروسة" (On The Bride’s Side) ضمن عروض بانوراما السينما الأوروبية. العمل الذي اشترك في كتابته واخراجه الإيطاليين غابريلي دل غراندي وأنطونيو أوغوليارو والفلسطيني خالد سليمان الناصري، يكشف جانبا من مأساة المهاجرين في القرن الجديد ويقدّمهم كرحّالة مغامرين مثاليين لهذا الزمن.
بطرق متنوعة يشكّل مفهوم التنقّل الأساس  لفيلم "أنا مع العروسة" حيث يشرع صانعوه والمشاركون به في رحلة غير قانونية عبر أوروبا بينما شبح حياة أفضل يستثمر الأمل في الفيلم الوثائقي الذي يتوجه تركيزه إلى مجموعة من النازحين الفلسطينين والسوريين في ميلانو بإيطاليا يقصدون أراضي ستوكهولم الأكثر إخضرارا حيث قوانين الهجرة السويدية أقل صرامة كما يشاع. ما من خط قطارات مباشر بين هذين البلدين والطرق السريعة مدججة بأفراد الشرطة، لذا يجتمع ثلاثة أصدقاء من ميلانو (غابريلي دل غراندي وخالد سليمان الناصري وطارق الجبر)، وجميعهم أصدقاء لهذا الشتات المصغّر، على تهريب هؤلاء المهاجرين الخمسة إلى السويد وتدبير حيلة لاخفاء السبب الحقيقي لتجمّعهم. هذه الحيلة الجريئة والمغامرة ستكون على الصورة التالية: ستتم الرحلة على أنها زفّة عرس تجول أوروبا ليتجنبا بذلك إثارة الشبهات. 1هذه الحالية والحيلة الغريبة والجذابة ستغري بمزيد من الجرأة ليتمدّد حفل الزفاف ويصل إلى قافلة من المهاجرين في رحلة تمتد حوالي الثلاثة آلاف كيلومتر ضمن قارة أوروبا خلال أربعة أيام خلال الفترة ما بين 14 و18 تشرين الثاني (نوفمبر) 2013.

هذه فكرة تعنى مخاطرة عالية وإحتمال التعرّض للسجن (تصل عقوبة مثل هذا الجرم إلى السجن 15 عاما كما يقول المخرجون) ولكن الوثائقي أكثر اهتماما برصد الشكوي من ظلم العالم وفي سبيل ذلك الاختيار يتكبّد السرد الشخصي الضريبة. يتحدث المهاجرون، المتانّقون بربطات عنق، عن موضوعات نبيلة في لقطات مقرّبة، مثل حلمهم الأوروبي، تغشاها نوافذ السيارات المضببة والأكواد البريدية في الخلفية. العروس، تسنيم، تقدّم احتجاجا باكيا ضد عالم منقسم رغم الشمس الواحدة التي تشرق عليه، وخطيبها المتنكّر، عبد الله، يكتب رثاء لمئات الرفاق الذين لقوا حتفهم في البحر بعد غرق قاربهم قرب جزيرة لامبيدوزا. منار، مغني راب سوري في الثانية عشرة من العمر، يضيف إلى الرحلة شيء من الخفة والحماس المراهق طارحا سؤالا معلّقا يعلو الاتجاه الاحتفالي للفيلم ويقدّم دليلا اضافيا على إنهيار الحدود الوطنية والتغيّر الذي تحدثه الحرب على فكرة الانتماء.
يتناول الفيلم بجدية مسألة وثيقة الصلة يمكن تلخيصها بأن الشخص الذام يشعر بأنه إنسان غير أخلاقي. وعلى أية حال، فهذا فيلم مثقل برثاءه وعاطفته وشروط وجوده الصعبة. تمتليء مقابلات أوغوليارو بنداءات غالبا ما تجرّد الشخصية التي تقوم بها وتلك النداءات نادرا ما تتوافق مع متغيّرات الرحلة وتبدأ التراجيدية المفرطة في التراجع إلى الخلفية. في أحد المشاهد، يقول أحد المهاجرين: "أريد أن أنام" وتتباطأ الكاميرا كما لو كان كلام الرجل قويا لشقّ الأرض التي يقف عليها. في مشهد آخر، تتلاعب الكاميرا حرفيا في محاولات لرسم الصورة الكاملة التي لا تأتى أبدا. تلك الهفوات يمكن فهمها إذا عرفنا أن التحضير للفيلم لم يستغرق سوى أسبوعين فقط تم خلالهما كتابة السيناريو وتقسيم المهمات والأدوار وخريطة الرحلة. بالإضافة إلى أنه يمثّل التجربة السينمائية الأولى لكل من الصحافي غابريلي دل غراندي والشاعر خالد سليمان الناصري، وأنطونيو أوغوليارو هو الوحيد من مخرجيه الثلاثة الذي له علاقة سابقة مع السينما من خلال عدة أفلام قصيرة.

المحطة الأصعب من الرحلة تتمثل في بدايتها: جبل صغير وشديد الانحدار يظهر كطريق مسدود أمام أفراد حفل الزفاف بزيهم الكلاسيكي ومسيرة مشي مُجهِدة من إيطاليا إلى فرنسا. إنها لحظة فاصلة في الفيلم يتحوّل فيها المُهمّ إلى ما هو خارج الشاشة وقت تعطيل الكاميرات. الشعور بالأسى والأسف جزء لا يتجزأ من الحيلة الأسلوبية للفيلم وهو ما يدفع بعض المشاهدين إلى الاعتقاد بأن الفيلم يختلق ذلك. جزء من ذلك هو حقيقة أن اللاجئين اخترعوا أدوارا وقسّموها على أنفسهم  كوكلاء عن بشر أكثر حظا، وهؤلاء الأخيرون لا يتوجّه الفيلم إليهم بالسؤال فعليا. فنحن لا نرى سوى صورة تضامنية من الشباب الأوروبي اللذين يفتحون بيوتهم للقافلة في ألمانيا والدنمارك والسويد، مستخفين بكل القوانين المتزمتة في سبيل تحقيق غاية إنسانية، وإحتمالية مساءلة قادة القافلة بتهمة العصيان المدني تبقى غير واضحة كما هو الحال مع السؤال الغائب عن الفيلم:  لماذا سياسة الهجرة في السويد أفضل من نظيرتها في إيطاليا؟. تُدفن تلك الأسئلة عميقا وتشحب أهمية الفيلم كوثيقة درامية أو صحافية.


29‏/2‏/2016

"Mediterranea" ..أحلام أفريقية موؤودة


الهجرة غير الشرعية هي موضوع الساعة مع الأخبار التي تطالعنا بها الشاشات والجرائد عن قوارب تغرق في عرض البحر ويموت راكبوها ممن ضاقت بهم بلادهم وحلموا بالوصول إلى حياة أكثر إنسانية على الشواطيء الجنوبية لأوروبا، ولسنوات عديدة ألقت الهجرة بظلالها الحسّاسة على السينما العالمية. ومع ذلك، ورغم المعالجات السينمائية الرصينة الأخيرة مثل الفيلم الفرنسي "ديبان" لجاك أوديار الذي يلقى نظرة قاتمة على عالم مهاجريين غير شرعيين من سريلانكا يحاولون التكيّف في ضاحية فرنسية تديرها عصابة، فهي أيضا ثيمة يمكن بسهولة تسليعها وتسييسها وغالبًا ما تكون عرضة لاستسهال الطروحات في أفلام لا تُحسن التعامل مع هكذا موضوعات ثقيلة الوزن ومتعددة الأسباب والنتائج. في بعض الأحيان، يحدث ذلك أيضًا كنتيجة للتقلّبات الميلودرامية في حكاية الفيلم، يصبح الأمر مكرورًا ويمكن التنبؤ به.
ما سبق ليس هو الحال مع فيلم "البحر الأبيض المتوسط" (MEDITERRANEA) باكورة أفلام المخرج الإيطالي جوناس كاربينانو، والذي استقبل بحفاوة في العديد من المهرجانات السينمائية على مدار العام قبل أن يحطّ رحاله في القاهرة لينال تصفيق الحاضرين في المسرح الكبير بدار الأوبرا المصرية حيث تمّ عرضه في المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة السينمائي في دورته السابعة والثلاثين، وقد توّج لاحقاً بجائزة الهرم الذهبي، كبرى جوائز المهرجان العريق. بأسلوب ونهج يمكن وصفه بالمضاد للسينما، يصل فيلم جوناس كاربينانو إلى هدفه بنجاح والمتمثّل في رسم وضع إنساني مروّع بمقاربة توقظ الأسئلة ومن دون إطلاق الأحكام.
النهج المتبع من قبل كاربينانو يميل للواقعية مع إستعانة بالأدوات السينمائية في حدّها الأدنى لدرجة يبدو فيها الفيلم لديه من القواسم المشتركة مع صناعة الفيلم الوثائقي أكثر مما لديه مع السينما الروائية. يُعلى المخرج من حيوية فيلمه وقوة تأثيره عن طريق التمثيل الحقيقي لواقع الشخصيات، وبالتالي لا يستخدم الفيلم الموسيقى للّعب على مشاعر المتفرّج. في الوقت ذاته، تأتي الكاميرا المحمولة وتغيب الحوارات المطوّلة ليشكّل هذان العنصران ما يمكن رؤيته بالأساس كتجربة مشاهدة لا تدعو لاصدار الأحكام ولكن لمحاولة الفهم، وهو ما يسمح بتفاعل أكثر انفتاحًا من قبل المشاهدين ليس فقط على أساس النظر والتدقيق في السياق الثقافي للفيلم ولكن أيضًا على مستوى الاستخلاص النهائي والحالة الشعورية التي سيصل إليها المُشاهدين، كلّ على حدا، كردّ فعل على طريقة سرد الفيلم.
يتابع الفيلم قصة صديقين من بوركينا فاسو يقومان بهذه الرحلة الخطرة من صحراء أفريقيا إلى شواطيء إيطاليا من أجل حياة أفضل. ينتهي بهم المطاف إلى حي للمهاجرين في روزارنو في كالابريا، وتحديدًا في العام 2010، وهو الأمر الذي سيؤدّي، وسط جو متوتّر من الصراعات العرقية، إلى إندلاع ثورة عنيفة من قبل المهاجرين الأفارقة الذين لم يجدوا الحياة التي طالما حلموا بها. إندلاع أعمال العنف في نهاية الفيلم هو التتويج الفادح لبناء تراكمي من مشاهد ولقطات مسيطر عليها بعناية تبدو غريبة بالنظر إلى حداثة تجربة المخرج وراء الكاميرا. ينجح كاربينانو في تصوير إجتياح الأجواء المرعبة في لحظات واضحة وصادمة وهو في ذلك يبيّن فاعليته في الامساك بصورة سينمائية مكافئة لوضع معيشي ميؤوس منه تقريبًا.
الشخصية الرئيسية في الفيلم هي شخصية آييفا (كودور سيهون) والتي تهيمن على حكاية الفيلم وخطوطه السردية، ومن خلال تصوير تلك الشخصية وتتبُّع مسارها يتضحّ للمُشاهد الوضع الكارثي الذي آلت إليه أمور هذا المهاجر الأفريقي وهو يقوم بما يقوم من أعمال شاقة فيما يمكن وصفه بسهولة بأنه شكل من أشكال العبودية الحديثة: العيش في خيام رثة وغير كافية لاتقاء البرد الأوروبي، والتعرّض باستمرار إلى التمييز المباشر أو غير المباشر من أهالي المنطقة، والاستغلال الجائر من قبل صاحب العمل الذي يمثّل الأمل الوحيد للحصول على تصريح عمل من شأنه السماح للمهاجر بالبقاء في إيطاليا وإستئناف حلمه في جلب باقي أفراد أسرته إلى البلد الأوروبي، حياة "اليوم بيومه" المثالية في قسوتها.
 نظرات آييفا الشاردة تنبيء عن قلق مدروس، حين يعبّر صديقه عن عدم رضاه عن حالهما التي تتعارض بوضوح مع أحلامهما قبل الشروع في رحلة الهجرة الشاقة يردّ عليه ببساطة بجملة على غرار: "ماذا تريد أن تفعل؟ العودة؟". آييفا هو المهاجر التعيس المعلّق بطريقة أو بأخرى بجعل حلمه الأوروبي ممكنًا، الحلم الذي يبدو مع ذلك بعيد المنال في كل الأحوال.


25‏/2‏/2016

"زنزانة"..سجن اسمه العالم العربي


في أولى أفلامه الروائية الطويلة يقدّم المخرج الإماراتي ماجد الأنصاري تجربة مختلفة تقف في جانب بعيد عن كلّ منجز السينما الخليجية، الشحيح عمومًا، والذي يتقاسم أفلامه ميلان: الأول يجنح نحو المحلية واستمداد الحكايات التراثية والثاني يضع نصب عينه السينما العالمية، والأمريكية بالتحديد، لانجاز أفلام تشابهها شكليًا من دون تقديم أي جديد في المعالجة أو الأسلوب. "زنزانة" الذي يتشارك بطولته الممثلين الفلسطينيين علي سليمان وصالح بكري مع آخرين من الإمارات والسعودية والسودان، يختار لنفسه مكانا مميزًا بين النوعين السابقين لتقديم عمل سينمائي أصيل يأخذ محاسن كل نوع ويدمجها في عملية ابداعية أقل ما يمكن وصفها به هي البراعة ليخرج كمولود جديد تمامًا على السينما الخليجية ويدشّن نفسه كفتح سينمائي كونه أول فيلم نوعي (Genre) في التاريخ القصير لهذه السينما الناشئة.
حكاية الفيلم مجرّدة من الزمان والمكان ولكنها متجذّرة في أرض عالمنا العربي منزوع الحرية. "حدث في سجن عربي" بهذه الجملة يفتتح الفيلم حكايته الديستوبية ثم تشير روزنامة إلى عام 1987 حيث نشاهد رجلين محبوسين داخل زنزانتين متجاورتين بعد مشاجرة تمت بينهما نعرف أسبابها لاحقًا يحرسهما ضابط شرطة متعاون يفرج عن أحدهما ويبقي على الآخر (طلال) لحين الاتيان بما يثبت هويّته. تبدو الأمور في طريقها للحلّ ولا ينقصها سوى انهاء اجراءات روتينية إلا أن شخصًا يظهر ليغيّر مصير طلال.
يدخل دبّان (علي سليمان) ضابط المناوبة بشيء من الاختلال البادي على محيّاه وابتسامة شريرة متكلّفة وشارب متملّق مرتديًا زوجًا من القفازات الجلدية السوداء وكأنه يبحث عن المشاكل. ويدرك طلال على الفور أن السجن ليس أكبر مشاكله عندما يجد نفسه متورطا فى مخطط مجهول لإنقاذ عائلته من رجل مضطرب عقليًا. دبّان مسلح أيضًا بخنجر وبندقية وحس فكاهة ساحر ودوافعه لاستعداء طلال وعائلته غير واضحة في أغلب فترات الفيلم. في البداية يبدو وكأنه يستمتع باللعب بحياة الناس وأرواحهم، أما قواعده بالنسبة لطلال فبسيطة وواضحة: إذا فعلت ما أطلبه وأبقيت فمك مغلقا، فلن يتأذى أحد.


 إلى جانب طاقم التمثيل العربي، قام فنانون أجانب بأدوار أخرى مثل المونتاج لشهناز ديلمي والموسيقى لتريفور جوريكيس والتصوير لكولن ليفيك، وهذا الأخير هو أفضل ما في الفيلم من الناحية التقنية. يولّف صنّاع الفيلم بذكاء عملهم، فمن خلال الكادرات الضيقة والافراط في اللقطات المقربة وزوايا التصوير المبتكرة والقطع المونتاجي اللاهث والصور المنشأة بالحاسوب (CGI)، يذهب المشاهدون في رحلة عبر الجدران وتحت الشاحنات وأحيانًا إلى الأعلى حيث السماء. كلّ هذا يجعل من الصعب النظر بعيدًا عن الشاشة، ويستثني من هذا التعميم ذلك المشهد الدموي الجروتسكي الذي يقوم فيه دبّان بذبح الضابط المسئول فى القسم ووضعه فى المرحاض والذي تباينت ردود أفعال المشاهدين تجاهه في العرض الذي حضرناه بسينما "زاوية" بوسط القاهرة.
هناك مباراة تمثيلية تجري وسط الأحداث، حيث يتألق علي سليمان في دور الرجل الشرير الكاريزماتي مع نكهة "جوكرية" تبدو جديدة على السينما العربية في تصدّيه لشخصية دبّان الغنية بتقلباتها وجنونها وفكاهتها في مقابل صالح بكري وشخصيته الهادئة المنكمشة التي لا يصل اليأس إلى وجهها. ومن المثير للاهتمام أن النص السينمائي هو اعادة صياغة لسيناريو أمريكي بالأساس من تأليف الأخوين روكوس ولاين سكاي حتى لتبدو بعض خطوط طلال الحوارية في الفيلم أفضل إذا ما قيلت بالانجليزية.
السيناريو ليس هو أفضل ما في الفيلم ولا يغوص عميقًا في الجانب السيكولوجي المعتاد في أفلام النوار (Noir)، ولكنه يتضمّن بعدًا سياسيًا مهمًا في حكاية هذا المواطن البسيط في مواجهة السلطة الغاشمة المتمثلة في ضابط الشرطة. كذلك الاصرار على تصدير حالة من الكلاستروفوبيا (رهاب الأماكن المغلقة) للمتفرّج بتصوير الفيلم كلّه داخل "لوكيشن" واحد هو السجن، يحمل تحدّيًا إبداعيًا من جانب صانعي الفيلم للتغلّب على الملل والضجر الذي قد يصيب المشاهدين، ولكنه في الوقت ذاته يدخلهم في محاكاة افتراضية لظروف القهر والاضطهاد التي يتعرّض لها المواطن العربي في سجون السلطة الحاكمة، وتجنبًا لمباشرة الطرح يقوم ذلك الاختيار بدور العامل المحفزّ لخيال المشاهدين لمشابهة ومقارنة ما يجري في السجن الافتراضي مع القصص التي يقرأ عنها يوميًا حول هذا الموضوع.
"زنزانة" فيلم رشيق وحيوي يسعى لتجاوز محلية حكايته ويحتاج السنيفيللين العرب إلى مشاهدته للوقوف على ما يمكن اعتباره بعد عشرات السنين حجر أساس سينما التشويق الخليجية.

24‏/2‏/2016

"Mustang": كلاستروفوبيا الأنوثة التركية


السعي السينمائي للقبض على أجواء الصيف والحرية والشباب هو أمر معتاد على الشاشة؛ من الأفلام الروائية إلى الإعلانات التي تشبه أحلام اليقظة. المخرجة، تركية المولد فرنسية النشأة، دينيز غمزي إرغوفين تقوم بعمل جيد في هذا الصدد في المشاهد الافتتاحية من باكورتها الإخراجية ماستانج .(Mustang)
نتعرّف على بطلات الفيلم واحدة بعد الأخرى: خمس شقيقات صغيرات يخرجن من المدرسة بشعورهن الطويلة في نهاية العام الدراسي إلى شاطئ البحر الأسود القريب، يتشاكسن ويضحكن معًا ويرششن المياه ويتعلقن بأكتاف مجموعة من زملائهن الذكور. الروح الديونيسية والإحساس بعناد وخِفّة تلك الأيام الذهبية والصداقة الحميمة بين الأخوات في هذه المشاهد تصبح نقطة عبور لبقية الفيلم: في غضون دقائق، تنحسر حريتهن فور وصولهن للمنزل والالتقاء بجدّة قلِقة (نهال كولدس) وعمّ محافظ وعصبي المزاج (إيبرك بيقجان) يريد فرض سيطرته على الأنوثة اليانعة في أجساد بنات أخيه المتوفّى ولا يمكنه السكوت عن نميمة الجيران، فاللعب والمرح مع زملائهن الذكور يسمحان برمي البنات بالفسق والانحطاط. غضب الجدّة، رغم العقاب الجسدي، يتبيّن أنه وقاية لهن من عقاب أشدّ وطأة سيأتي من قبل العمّ المحافظ.
تتعرّض الشقيقات للسجن داخل المنزل حرفيًا، ويتم التخلّص من السموم الخارجية، التليفزيون الهواتف الخلوية والماكياج، ليتحوّل المنزل إلى "مصنع للزوجات": سريعًا يتمّ إعداد طبق الدولما (لحم وأرز متبّل محشو في أوراق الكرنب) وفحص غشاء البكارة للتأكد من سلامته، وترتيب زيجات البنات الأكبر. يتحاشى السيناريو إحساسًا واضحًا بوقتية الحكاية لصالح تعزيز فكرة مشابهتها لاستعادة مكرورة لخرافة ما، لتتوسّع تداعيات تلك الحكاية الكلاستروفوبية لتتزوج الشقيقات واحدة بعد الأخرى في نمط يبدو غير قابل للانكسار.
لا تخضع الفتيات من دون قتال وضجة ففي النهاية هن خمس باسلات يقفن في مواجهة قهر بطريركي؛ عنوان الفيلم هو إشارة صريحة إلى أرواحهن غير المروَّضة ومعنوياتهن غير القابلة للانهزام، لا يخفن من رفع أصواتهن ضد النفاق المحيط بهن. بعد "الفضيحة" الأولى، يحطمن كراسي المنزل لإثبات وجهة نظر صارخة؛ "هذه الكراسي لمست فتحات مؤخراتنا، أليس ذلك مثيرًا للاشمئزاز؟". وبينما تحكم الجدران عزلتهن، تستمرّ الفتيات في تنظيم حركات تمرّد صغيرة، سواء بالهرب لمشاهدة مبارة لكرة القدم أو في الزواج عن حب حقًا، حتى لالي، العفريتة الصغيرة، تضع خطة هروبهن.


الفيلم حيوي وميلانكولي كذلك، وقد ركب موجة النجاح الحاسم منذ عرضه الأول في أسبوع النقاد بمهرجان كان السينمائي الدولي وتكلّل بالعديد من الجوائز، كما تجاوز فيلم "ديبان" لجاك أوديار المتوّج بسعفة "كان" الذهبية هذا العام لتختاره فرنسا لتمثيلها في سباق الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي في خطوة أثارت استغراب الكثيرين (الفيلم ناطق بالتركية وصوّر في تركيا وصنّاعه وممثلوه أتراك، والتمويل فقط هو الشيء الفرنسي في الفيلم إلى جانب منتجين من تركيا وألمانيا وقطر).
مثلما يقول مارك شولز "السينما لغة تمكننا من الحديث عن الطريقة التي نرى بها العالم"، تختار المخرجة نتفًا من سيرتها العائلية لتنسج حكاية فيلمها وقصة الشقيقات الخمس وحرمانهن من حرياتهن الأساسية بعد الزواج ودور المرأة في مجتمع أبوي منعزل. تختار إرغوفين نظيرتها لالي، حيث كانت المخرجة أصغر بنات أسرتها، وتُلبسها وجهة نظرها للأمور في مجتمع محافظ يرفض هجر أعرافه بينما يتشكّل جيل تركي جديد يسعى لأوروبة نفسه.
في أحد اللقاءات الصحفية مع المخرجة تقول: "أحيانًا يأتي أحدهم ويقول معترضًا: "ولكنه (الفيلم) إيروتيكي جدًا". ولكن فرض مدلول إيروتيكي على الجسد الأنثوي هو مكمن المشكلة التي يسعى الفيلم لمعالجتها. هناك تلك الثقافة الجنسية التي يتم النظر من خلالها إلى النساء في تركيا. كلّ حركة وكلّ فعل كلّ شبر من الجلد.. يتم فعل ذلك بطريقة اختزالية للغاية".
الفيلم يقدم بورتريهًا لذلك الصبا والشباب مع عين حريصة على الجمال في اختيار اللقطات والزوايا وهنا تجب الإشادة بالمصوّر الفرنسي ديفيد تشازلي الذي جمّل الفيلم بألوانه الحسّية الحارة وإضاءته الوضّاءة (يمكن بسهولة وضع الفيلم في مقارنة مع "انتحار العذراء" لصوفيا كوبولا وكلاهما يتشابهان في الثيمة ومرئياتها الحلمية والرقيقة).
لا تخفي المخرجة، التي تقيم بفرنسا، انحيازها للتقاليد والقيم الأوروبية ولعل ذلك يتبدّى على مستوى أعمق في "ماستانج" الذي يبدو متكلّفًا واضطراريًا في حلوله وسردياته حيث تنحدر قرارات السجينات المراهقات إلى مستوى عالٍ من السخافة واللامعقولية، وتأتي الحقائق القاسية لحياة نضرة مقموعة بسلطة أبوية من أجل ضحكات مجانية أشبه بتنفيس مؤلم. شعبية الفيلم لا لبس فيها ومدى قبوله لدي كثير من المشاهدين لا يمكن إنكاره، وأزيز ذلك التصدير لفكرة الصدمة الوطنية والثقافية ليس بجديد على أفلام تحتفي بها المهرجانات والجمهور على السواء. ربما يفوز "ماستانج" بأوسكار أفضل فيلم أجنبي، من يدري.

23‏/2‏/2016

"خطاب إلى الملك".. الجرح الكردي المهاجر


يحبّ المخرج النرويجي-الكردي هشام زمان قصص الحب الجميلة من موطنه الكردستاني ولكنه يعترف بأنه لم تتح له الفرصة لمشاهدة الكثير منها على شاشة السينما. "أتمنى أن يأتي يوم ما ويحكي أحدهم واحدة منها بنهاية سعيدة"، هكذا تحدّث المخرج إلى "ألترا صوت" على هامش عرض فيلمه "خطاب إلى الملك" في بانوراما السينما الأوربية التي أقيمت مؤخرًا بالقاهرة.
الأفلام الكردية شحيحة وأغلب الإنتاج السينمائي الكردي في العراق وتركيا وإيران وسوريا فضلًا عن الشتات الكردي في أوروبا، لا ينفك يطرح إشكاليات الفقد والحرب والهجرة والمسألة الإجتماعية. يرجع زمان السبب في ذلك إلى الصراع المستمر الذي أصاب إقليم كردستان: "سينما تلك المنطقة لا تزال "تحبو" زمنيًا ولديها الكثير للحاق به مستقبلًا. أتقن المخرجون حرفة السينما في العشرين سنة الماضية وبدأوا بالقصص والحكايات التي لا يستطيع روايتها آباؤهم وأجدادهم، ليظهروا للعالم أي مسار مأساوي مرّوا به في تاريخهم. ركّزوا على القضايا التي تصلح لتجارب مشاهدة مؤلمة عاطفية ولكن من المهم أيضًا عدم نسيانها." يعترف المخرج الذي درس بمدرسة السينما النرويجية في ليلهامر وتعتمد أفلامه على تجربته المأساوية الخاصة: "الأفلام الكردية الخفيفة يبدو أنها تقف في طابور طويل في انتظار دورها للظهور، ربما يكون بمقدور أطفالنا إخراج مثل تلك الأفلام في المستقبل."
اضطرت عائلة المخرج إلى ترك مدينة كركوك في كردستان العراق حين كان في العاشرة، تفاديًا منها للصراع المسلح بين الميليشيات الكردية ونظام صدّام حسين والذي بلغ ذروته الدموية في هجوم النظام العراقي بالغاز السام على حلبجة عام 1988. أصبح زمان لاجئًا في إيران قبل أن ينتقل إلى تركيا، وأخيرًا وصل إلى النرويج في عام 1992 ليدرس السينما ويحصل على جنسيتها ويظلّ السفر والهجرة محور الاهتمام في جميع أفلامه.

في ثاني أعماله الروائية الطويلة "خطاب إلى الملك" الحائز على جوائز وتكريمات في كل من النرويج والسويد ودبي وإيطاليا، يعاود زمان مقاربة الشتات الكردي من خلال قصص متشابكة لخمسة من اللاجئين في النرويج الذين وصلوا أوروبا بأحلام ليس بوسعهم تحقيقها بالضرورة. يقوم الخمسة برحلة إلى العاصمة أوسلو، ليواجهوا مصائر مختلفة، لكن الشيئ الوحيد الذي يجمعهم هو الرسالة التي يكتبها ميرزا، الرجل ذو الثلاثة وثمانين عامًا والذي ارتبط بعلاقة عاطفية مع المواطنة النرويجية هيلدا، ويريد تسليمها إلى ملك النرويج شخصيًا. هذه الرسالة تحكي شيئًا عن ماضي ميرزا وعائلته وتحكي شيئًا عن معاناة الشعب الكردي في كردستان العراق، وتحكي أشياء عن الفارق الشاسع بين حياة سكان النرويج وحياة الشعب الكردي.
حين يأتي الحديث إلى قصة الفيلم وتجربة المخرج الشخصية، يشير زمان أولًا إلى محمد أكتاش شريكه في كتابة السيناريو والذي يتشارك معه أيضًا تجربة اللجوء والهجرة ككردي تركي في برلين قبل أن يصبح كاتبًا صحفيًا. ثم يقول أن فكرة الفيلم الأساسية خطرت في ذهنه حينما شاهد مجموعة من اللاجئين الأكراد الأتراك يترجّلون من حافلة كبيرة مرتدين ملابس متشابهة كأنها زيّ موحّد. استقر المشهد بداخله وقرّر تغيير مسار الحافلة من مركز اللجوء إلى العاصمة أوسلو. بعد ذلك التقى أحدهم، وكان أبًا كبيرًا، أراه رسالة الرفض الأخيرة التي تلقاها من السلطات النرويجية طالبة منه مغادرتها نهائيًا، ثم طلب من المخرج كتابة رسالة إلى الملك  ليتدخل ويمنع ترحيله أو يجد حلاً آخر غير الترحيل.


رسالة ميرزا تشير إلى رغبة الكثيرين في العودة إلى أوطانهم خلافا للنظرية القائلة بأن جميع اللاجئين يفضِّلون البقاء في المنافي الأوروبية. فهناك من يريد العودة إلى وطنه حفاظًا على كرامته وثقافته وهويته وهو ما تركِّز عليه ثيمة الفيلم وما يؤكده المخرج: "الناس الذين فقدوا كلّ شيء حين تركوا بيوتهم، رحلوا بكرامتهم فقط. وهم لا يريدون خسارتها أبدًا". يتذكّر المخرج يوم وصوله إلى النرويج مع عائلته في ديسمبر 1992 وعمره 17 عامًا، حيث كانت الثلوج تتساقط على القادمين وابتسامات الناس في المطار جعلته يشعر بأنه في بيته. الآن من يشرع في رحلة إلى أوروبا يواجه الكثير من التحدّيات بالمقارنة مع فترة أوائل التسعينيات مع تنامي ثقافة من عدم الثقة والبغض تجاه المهاجرين "إنهم يرحلون من دراما في وطنهم ليدخلوا في دراما جدية في الغربة، وهذا هو مكمن مأساة المهاجر في القرن الواحد والعشرين".
"كنا نعيش في عالم قاس للغاية كلاجئين طيلة سبع سنوات وشعرت بأن قدومي للنرويج كان نقطة التحول الكبرى في حياتنا. كانت كل الأمكنة بيضاء مثل الثلج الذي استقبلني، وكأن بابا ضخما فُتح لي ولعائلتي. أحسست بالجمال والدفء والعطف من الناس الذين كانوا يبتسمون لأنه أمكنهم رؤية جراح ماضينا المؤلم. لن أنسى هذا أبدا"
الفيلم القوي والمميز يدور في أجواء شتوية شاحبة وكئيبة ولا ينتهي نهاية سعيدة وكنوع من الإجابة على ذلك يحكي المخرج حكاية عن الممثل الذي قام بدور ميرزا في الفيلم: "توفى قبل عرض الفيلم بعام كامل (استغرق التصوير أربعة اعوام) ومن سخرية القدر أن هذا الرجل مات على كرسى أحد الحدائق مثلما حدث بالفيلم وذلك قبل تحقيق مراده في الانتقال إلى منزل جديد توفّره له الدولة النرويجية."
وفي النهاية يدعو المخرج إلى التفكير بطريقة كونية بديلًا عن الانغلاق الاقليمي والمحلي حاثًّا الأوروبيين على النظر إلى القادمين إلى قارتهم كأناس عاديين وليس كمهاجرين أو لاجئين: "تلك هي تجربة حياتهم. هم لم يختاروا أن يكونوا في هذا الوصع الصعب. اضطرتهم الظروف إلى أن يكونوا لاجئين، ولكن يومًا ما كانت لهم حياة أخرى مختلفة تمامًا. جميعنا نريد حياة أفضل، فلماذا لا يحق ذلك أيضًا للّاجيء من أجل نفسه ومن أجل أبنائه؟"


22‏/2‏/2016

"الليلة الكبيرة"...حين يدخل الله إلى السينما


حديث البعض عن "مشروع سينمائي" يجمع الثلاثي أحمد عبدالله مؤلفًا وسامح عبدالعزيز مخرجًا وأحمد السبكي منتجًا يبدو مبالغًا بعض الشيء. كذلك التنظير بخصوص الدراما الأفقية والمؤطّرة بزمن سينمائي لا يتعدّى اليوم الواحد يبدو مغرقًا في التفاؤل والتعويل على منتَج سينمائي لا يوجد سوى في خيال بعض النقّاد. بدءًا من "كباريه" (2008) وتابعه "الفرح" (2009) ثم "ساعة ونص" (2012) وصولًا إلى "الليلة الكبيرة" في 2015؛ شكّلت دراما الحواديت المتقاطعة في مسافة مسافة زمنية أفقية ما يشبه "تريند" اعتمدته سينما السبكي لانجاز أفلام تبتعد ظاهريًا عن بقية انتاجات الشركة الموصومة من قبل الكثيرين بالمسئولية عن ظهور "موجة من الأفلام الهابطة والتافهة المحرّضة على العنف" خصوصًا في أوساط المصريين من الشباب والمراهقين. ويُذكر أن آخرين، مأخوذين بالنجاح الجماهير لتلك الأفلام، حاولوا استنساخ تلك الخلطة السينمائية مع تغييرات أسلوبية ونصّية طفيفة من دون أن يطرّز التوفيق تجربتهم.
"الليلة الكبيرة" هو آخر عناقيد الثلاثي عبدالله وعبدالعزيز والسبكي وقد بدأت عروضه التجارية في الصالات المصرية في أوائل ديسمبر  وذلك عقب عرضه ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة السينمائي في دورته الأخيرة. ورغم التوقعات بعمل سينمائي مختلف وجدير بتمثيل مصر في المسابقة الرسمية للمهرجان العريق فإن الفيلم نفسه أثبت مدى غموض أسباب ذلك الاختيار نظرًا للمستوى الفني المتواضع الذي ظهر عليه وهزال الطرح الفكري الذي يقدّمه حول الصوفية والسلفية.
كالعادة، تدور أحداث الفيلم في يوم واحد هو ليلة الاحتفال بمولد أحد الأولياء المتخيّلين (عرش الدين الأنصاري)، وبالتحديد من فجر تلك "الليلة الكبيرة" وحتى فجر الليلة التالية. مع افتتاحية مهيبة تظهر فيها خادمة المقام (سميحة أيوب) تبتهل بالدعاء قبل أن تدخل مقام الوليّ لايقاظ النائمين استعدادًا للاحتفال الكبير. وكالعادة، هناك الكثير من الشخصيات والحكايات المنفصلة والمتقاطعة والخطوط السردية المتوازية، حتى أنه ليمكن لهواة التوثيق والتفصيل كتابة مقال قائم بذاته يحوي أسماء الممثلين والشخصيات وحكاياتها. هذه الكثرة والوفرة تمثّل ثقلًا زائدًا على الفيلم الذي تبلغ مدته 123 دقيقة ويمكن بسهولة حذف ساعة كاملة من تلك المدة من دون أن يتغيّر شيء. ومن ناحية أخرى أعطت هذه الكثرة فرصة للعديد من الممثلين للظهور في شكل مختلف (كما في حالة علاء مرسي مثلًا) والعودة إلى الشاشة الكبيرة (كما في حالة وائل نور وصفية العمري).
هناك مورال أخلاقي ديني ثابت في الأفلام الأربعة هو في صلب العوار الذي يتخلّل ذلك "المشروع السينمائي" الذي يقترح العودة إلى "الشكل الصحيح للاسلام الوسطي" على حدّ قول المؤلف، وفيه يتمّ عقاب المتسبّب في الانحراف عن هذا الاسلام الوسطي: في "كباريه" يمثّل انفجار الملهى الليلي عقابًا مزدوجًا للمتشدّدين الدينيين والمنحرفين عن طريق الله على السواء، ولا ينجو من هذا العقاب الدرامي سوى النادل الازدواجي الذي يحافظ على الصلاة في أوقاتها أثناء عمله في تقديم الخمور للزبائن. في "الفرح" تتدمّر حياة العريس لعدم اسراعه في دفن والدته واصراره على استكمال الفرح لجمع النقوط كاملًا، ولا ينسى الفيلم تذكيرنا بالنهاية السعيدة التي كانت تنتظره إذا ما اتبع صحيح الدين وأنهى الفرح سريعًا ليدفن والدته ويكتمل الخطاب الأخلاقي الديني بالآية القرآنية: "إن أنا إلا نذير وبشير لقومٍ يؤمنون". في "ساعة ونص" يكون حادث القطار الذي يودي بحياة أغلب الشخصيات هو العقاب الدرامي لهؤلاء الأفراد المنخرطين في الفساد والجنس والتفسخ الاجتماعي، وبالطبع لا ينجو سوى الأنقياء والأطهار بحسب تعريف المؤلف.
الأمر ذاته نجده في "الليلة الكبيرة" ولكن بإدراة بؤرة الاهتمام إلى علاقة العبد بالمعبود بدلًا من ثنائية التطرف الديني والتطرف المضاد. يأتي هنا التشدد الديني الذي يمثله السلفيين الرافضين لإقامة الموالد والافراط في تغييب العقل الذي يمثله زوّار المولد، لينزل العقاب على اللاجئين إلى غير الله وهو الوليّ الذي يقام له المولد. وبدوره يختلف العقاب الدرامي قليلًا؛ فليس هناك كارثة عامة طارئة تحصد حياة العصاة والخطّائين كما في الأفلام الثلاثة السابقة ولكن عقاب ينتظر كل شخصية على حدة وبطريقة مفرطة في افتعالها وابتذالها.
في نهاية الفيلم يغمر المطر الجميع في كريشندو رمزي ربما يعكس نيّة صنّاع الفيلم في تمثّل يوم القيامة والتذكير به، ولكن ليس بالنوايا الطيّبة وحدها تأتي الأفلام الجميلة.



8‏/12‏/2015

"الرئيس" لمحسن مخلمباف.. الثورة بعيون الديكتاتور وحفيده


في وقت مبكر من فيلم "الرئيس" للمخرج الإيراني محسن مخلمباف، نبدأ في إستدعاء مرجعيات وإحالات محددة إلى "بلد غير مُسمّى" ينتهي به الأمر إلى إنقلاب على الحاكم، ويظهر تساؤل حول هذا الراوي العليم الذي يتجوّل بنا خلال ساحة المدينة مبهرة الإضاءة. نعرف أن ثمة عقوبة إعدام أخري على وشك التنفيذ في ظل الحكم الطاغي لديكتاتور هذا البلد، وهو رجل تتم الإشارة إليه فقط عن طريق مكانته المُفخّمة. أثناء التوقيع على أحكام الإعدام يقوم الزعيم المبهرَج بلعبة سخيفة مع حفيده الصغير لاظهار سلطته المطلقة من خلال تغيير الأضواء في المدينة بأكملها على نحو متقطع، ثم بعد ذلك تذهب الأضواء عن نظام حكمه حرفيًا. مع تقدّم الفيلم سيدرك المشاهدين عدم أهمية معرفتهم لمكان تلك القصّة، لأن كل ما يشاهدونه رمزي وهذا البلد غير المحدّد يمكن إسقاطه على العديد من الأمثلة. بدلًا من ذلك، تأتي أحكام الإعدام مثل فرصة للخطابة حول التسلّط والمغالطات الفادحة لغريزة الانتقام.
الرئيس (ميشا جومياشفيلي)، أو صاحب الجلالة كما يفضّل أن يناديه الآخرون، يبدو مغيّبًا وأخر من يدرك أن الاضطراب السياسي الحادّ الجاري في بلده على وشك إنهاء حكايته على كرسي السلطة. بعد مقتل زوج إبنته، يُقتاد إلى خارج البلاد زوجته (إيكا كاخياني) وابنتيه المزعجتين (نوكي كوشكلشيفي وإيلين بيزارشفيلي)، بينما  ولكن يرفض حفيده الصغير (داتشي أورفيلاشفيلي) الإبتعاد عنه. بعد مغادرتهما المطار، تُحتجز الليموزين التي تقلّهما من قِبل المتظاهرين اللذين إحتلّوا الشوارع وتبوء بالفشل محاولتهما للعودة إلى القصر. وأخيرًا، بعد  الإطاحة برجال الرئيس، يتوجّب على الديكتاتور الهروب متخفيًا في الطرق الريفية بينما المكافأة المعلنة عن رأسه تتزايد باضطراد.
على غير عادة وأسلوب المخرج في أعماله المميّزة السابقة، يفرط مخلمباف في الإرتكان إلى الهزلية لعرض موضوعه. وربما يتوقّع المتفرّج عرضًا من المخرج للمشاركة في النكتة الدائرة أو إصراره على عدم السماح لأي تعاطف ممكن من الجمهور تجاه الديكتاتور أو نسله، ولكن هذا لا يحدث أبدًا. وبدلًا منه، نقضي حوالي ساعتين في ميادين مكتظة نتابع سعيًا إنسانيًا للبقاء مع الرجل المسئول عن سنّ كلّ تلك الفظائع الوحشية أو على الأقل غضّ الطرف عنها. وفي حين لا يمكن الإدعاء بالقول أن مخلمباف يسعي لتقديم صورة حنونة وتستدرّ العطف، يبقى الفيلم بورتريهًا مؤنسنًا لرجل يُظهر ما تجلبه السلطة والشهرة من رؤية شمولية للحقيقة والواقع معا. في نهاية المطاف هو مجرد رجل، إنسان، ويمكن للمرء في هذا الصدد إستدعاء فرضيات حنّا أرندت حول إيخمان وتفاهة الشرّ.
 فنّيًا، يظل هناك شيئ مفقود أو غير مكتمل في الفيلم وكأن بعضًا من التحجيم والتراجع أصاب مخلمباف وزوجته وشريكته في كتابة السيناريو (مارزية مشكيني). من المؤكد أن مواجهة نهائية ستجري في مكان بعيد، حيث مصير الديكتاتور المخلوع مرهون بأيدي حشد غاضب من جماهير مقهورة. ولكن وجهات النظر المختلفة حول ما يجب فعله معه وما يعنيه تبدو مثالًا واضحًا على ذلك التحجيم الدخيل على النصّ السينمائي وكأنه كتب مرارًا حتى يأتي على تلك الصورة التي يخرج منها المُشاهد بمورال (moral) مريح. كذلك يبدو الإزدهار البصري للفيلم صامتًا لقلّته وتباعده ويظهر في مشاهد نادرة مثل زمرة من رجال العصابات يتحلقون بهدوء حول صبي صغير لينطلقوا به في سيارة ليموزين، أو مشهد الرقص، المشار إليه باستمرار في الفيلم، حيث يندمج الحفيد مع ماريا زميلة المدرسة. لكن ذلك الوعد سريعًا ما يتبدّد ليعمل الفيلم كدراما خطّية (linear) من أجل البقاء، تكشف فيها بيانات الإذاعة حول الرئيس الهارب مدى قرب أعدائه منه بطريقة كارتونية. وما يمكن الخلوص إليه في النهاية إن الفكرة القائلة بأن جذور التغيير الديمقراطي يمكن أن تكون عنيفة وفاسدة مثل الديكتاتورية العسكرية تصادف في طريقها فكرة أخرى ساخرة ومريرة مفادها إن إكتساب الشعوب لحرّيتها وسعادتها محض أسطورة سياسية تُستخدم فقط لقيادة الجماهير نحو أعماق أسفل.
جومشفيلي، في أدائه لشخصية الديكتاتور، يقدّم دورًا سيحجز مكانًا رفيعًا في مسيرته، ولكن داتشي أورفيلاشفيلي بدوره يسرق العرض من الجميع بأداء طفولي مثالي لا يعيبه سوى المبالغة قليلًا في تصوير فقدانه التدريجي لبراءة الطفولة، ولكنه يبقى أبرز ما في هذا الفيلم الذي أتى كهجاء إستعاري هزلي لا يضاهي أفلامًا أجمل قدّمها مخلمباف وهو يعمل داخل إيران قبل أن يغادرها إلى فرنسا في عام 2005 بعد وصول محمود أحمدي نجاد إلى كرسي الرئاسة الإيراني.


5‏/12‏/2015

أوديسا عراقية.. نشيد الشتات الأخير


ليس غريبًا على الإنسان رغبته في معرفة من أين جاء وتحصّله على هذا الشعور كنوع من حتمية فهم مكانه من العالم. يمكن الذهاب بعيدًا بهذه الفكرة إلى حد القول بأنه في حالة تجربة المهاجرين يمكن لتلك الرغبة أن تكون أكثر وضوحًا،حيث تتفرّع من نقطة الأصل والمنشأ تقسيمات كثيرة إلى أن تصير جزيئات متناهية الصغر بمرور الزمن.
أيًا ممن عاشوا تلك التجربة يمكنهم مطالعة تاريخ عوائلهم بنظرة سريعة وإكتشاف شساعة الإنتماء وجغرافيا القرابة ويمكنهم الشروع بعد ذلك في محاولة تشريح وفحص وإعادة بناء ذلك "البازل" العائلي إلى شكل محتمل متماسك. ربما يجد البعض ذهنه يدفعه بالحاح دائم إلى أشكال ممكنة للقيام بذلك، وفكرة فيلم "أوديسا عراقية" للمخرج سمير نقّاس ليست بعيدة عن ذلك. هناك ما يشبه الخبرة الجماعية العالمية فيما يتعلّق بالهجرة ومصائرها خصوصًا بين الأشخاص الذين يمتلكون تاريخًا مشتركًا مع بلد لم تختره عائلته مكانًا للعيش.

"أوديسا عراقية" هو فيلم سمير نقّاش الذي عرض مؤخرًا في مهرجان القاهرة السينمائي (11-20 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري( وهو يتابع الطريق التى بدأها المخرج قبل سنوات في فيلمه السابق الجميل "إنسَ بغداد".

 على المستوى الخارجي، "أوديسا عراقية" فيلم عن الشتات العراقي. ولكن من جديد يمكننا التذكير بأن أربعة أو خمسة ملايين عراقي يعيشون خارج بلدهم، فلماذا سمير بالتحديد؟ وهذا سؤال يجمل إجابته بداخله. فيلمه شخصي بشكل صريح ولكن عالمي وجماعي في الوقت ذاته، إنه قطعة فنية متعددة المستويات حيث يمكن لكثير من جوانب التجربة المصوّرة أن تتقاطع مع بشر آخرين في شتات آخر: أين يعيش فرد معين من العائلة؟، ما الذي أتي به أتى إلى هذا المكان؟ والسؤال الأبدي عن مدى إختلاف الحياة إذا لم تحدث الهجرة من الأساس.

 من ناحية أخرى، هناك آخرين أكثر تحديدًا في تجربة الشتات العراقي مثل شخصية صدّام حسين، والعراق في وقتنا الحاضر، وخبرات وتجارب العراقيين بالخارج كما توضحها الشخصيات داخل الفيلم. ثم هناك المستوى الأخير: سمير. وبتوضيح أكثر، فإنه تحت كل مشهد من مشاهد الفيلم الوثائقي يكمن سمير :حكاياته، علاقاته، عائلته، تاريخه، وهو ما يمنح المشاهدين الفرصة لتواصل أكثر حميمية معه. هذا إذن عمل قادر على تقديم حكاية شخصية على خلفية تاريخية وسياسية في أثناء فحصه العلاقة المتأنّية والمعقّدة بين كلا الجانبين.

يخون المخرج السرد الوثائقي في معظم فترات الفيلم في سبيل المحافظة على البساطة باعطائه زمنًا أطول لرواية قصص المهاجرين من عائلته، ولكن الخلفية الشخصية مُهمّة في فهم إتساع وعمق ما يقدّمه سمير. سمير (بغداد 1955) من أب عراقي وأم سويسرية، عاش في سويسرا معظم حياته ولكن بقية عائلته –مثل أغلب العائلات المهاجرة وعبر أجيال في الشتات- تبعثروا في أماكن بعيدة مثل أستراليا ونيوزيلاندا وبريطانيا وأمريكا وروسيا. يكفي القول أن معظم أفراد عائلة سمير لا يعيشون في العراق بعد الآن، ومثله، فحكاياتهم تبدو أقل ارتباطا بالبلد نفسه منها إلى التقاطعات والمشتركات بينه وبين مكان هجرتهم. العراق الذي يتذكره سمير في طفولته لا يمت بصلة إلى العراق اليوم، ومشاهد الموسيقى والرقص والشباب الجامح والمشهد الثقافي المتنوع في بغداد منتصف القرن الماضي تجعلنا نفكّر في مدينة معاصرة يمكن الاحتذاء بها. ولكن ماذا عن اللحظة الراهنة ومصير عائلة سمير، تلك العائلة التي كانت عائلة بغدادية متوسطة فصارت عائلة معولمة يحاول أحد أبنائها لملمة ذكرياتها المبعثرة في أنحاء العالم الأربعة.

في مفتتح الفيلم، يوضّح المخرج من البداية إستحالة تغطيته كل حكاية من حكايات عائلته الكبيرة والمبعثرة. نرى الكاميرا تطالع شجرة عائلة كبيرة الحجم بشكل لافت، وببطء يتمّ تسليط الضوء على عدد قليل من الصور في شجرة العائلة ويصبح واضحًا أن هؤلاء بالتحديد هم محطّ إهتمام ما سيأتي من مشاهد الفيلم الوثائقي. هناك عنصر تراجيدي يؤطّر تاريخ سمير، وهو شيء لا تتشارك فيه جميع تجارب المهاجرين: إنه شخصي إلى حد كبير وبالنظر إلى إشتغاله على مستو وطني فبالتأكيد يحمل قدرًا من المشابهات مع تجارب أخرى. ولكن هذا التاريخ الشخصي يرزح تحت ثقل أليم صارخ وفريد من نوعه ينجح سمير في التعبير عنه في مسافة تتراوح بين الإخلاص الكامل والعاطفية المحضة.

وثائقي سمير شخصي وتاريخي في آن واحد، ويتم الاشتغال على ذلك خلال الأجزاء الثلاثة التي تتألّف منها "الأوديسا". أولًا سمير ينظر إلى جدّه، الرجل الذي قاتل البريطانيين وظلّ واحدًا من أبطال المخرج. بعد ذلك يصبح الفيلم أكثر شخصية مع دراسة المخرج لموجات الهجرة العراقية التي تصادف وجوده بداخلها في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين. هناك جانب سياسي لذلك كلّه يؤطّر النصف الأخير من الفيلم، فهجرة سمير (القسم الثاني) تبدأ من وقت أتى صدّام حسين إلى الحكم بانقلاب عسكري واستمراره على كرسي السلطة طيلة ثلاث عقود، بينما القسم الثالث والأخير يبدأ من لحظة سقوط صدّام حسين.
 في تلك الفترة الممتدة لحوالي نصف قرن، يُظهر سمير تاريخًا كاملًا من النزوح والدمار بطرق -من دون وجود مثل هذا الفيلم- لا يمكن تصوّرها تقريبًا بالنسبة لمن هم خارج بلادنا العربية المنكوبة بحكّامها. من الصعب وصف ذلك ولكن "أوديسا عراقية" يقوم بعمل مذهل في هذا الصدد.


4‏/12‏/2015

"عيون الحرامية".. استعادة الانتفاضة الثانية


في فيلمها الروائي الثاني "عيون الحرامية"، تعود المخرجة الفسطينية نجوى نجّار إلى الانتفاضة الثانية، وبالتحديد سنة 2002 لتختار بطل حكايتها. "عيون الحرامية" اسم واد شهير بين رام الله ونابلس أقام فيه الاحتلال الإسرائيلي نقطة للجيش وحاجزًا عسكريًّا، قام قنّاص فلسطيني بإطلاق الرصاص على عناصره باستخدام بندقية أمريكية الصنع، وهو التفصيل الذي اعتمد عليه الأمن الإسرائيلي -في حينه- لترجيح أن يكون المسؤول عن التنفيذ شيخًا مسنًّا شارك في الحرب العالمية الثانية، أو مقاتلًا شيشانيًا، ولكن بعد مرور عامين اتضحت هوية الشاب الفسلطيني منفذّ العملية وتم اعتقاله والحكم عليها بالمؤبد.
تتغيّر الحكاية قليلًا في فيلم نجّار الذي يتابع في ساعتين وعشر دقائق قصة منفذّ العملية الذي تغيّر اسمه من ثائر إلى طارق (خالد أبو النجا) - وتغيرت بلدته من سلواد إلى سبسطية وتغيرت ديانته من مسلم إلى مسيحي- الذي يسجن عشر سنوات في السجون الإسرائيلية ويعود إلى بلدته ليفاجأ بموت زوجته واختفاء ابنته التي أودعت في أحد دور الأيتام، لتبدأ رحلته في البحث عن ابنته في المدن الفلسطينية.
بهذا التمهيد السردي، تؤسّس المخرجة دراما فيلمها على الثيمة الشهيرة "عودة الغائب" الذي يعود إلى عالمه القديم ويصطدم بطارئ الأحداث ومستجدات الوضع. ومع كلّ خطوة ومرحلة من رحلة طارق لاقتفاء أثر ابنته المفقودة ستتشكّل بداخله صورة جديدة عن وطنه وعالمه ونفسه: يبحث طارق، الحاصل على بكالوريوس الهندسة، عن عمل فينتهي به المطاف إلى إصلاح مواسير المياه لحساب واحد من الحيتان الصغيرة لمرحلة ما بعد أوسلو يدعى عادل (سهيل حدّاد).
لدي عادل مشغل لفساتين الزفاف تعمل به عدد من السيدات من بينهن ليلى (سعاد ماسي) التي تماطل في الزواج من عادل. لدى ليلى ولد من زوجها المتغيّب قسرًا وابنة بالتبني (ملك أرميلة). تنشأ علاقة صداقة بين طارق وملك التي يرى فيها ابنته المفقودة وترى فيه أبيها الغائب، يجدان في البلياردو مساحة مشتركة للتواصل وإنماء علاقتهما، وبطريقة ما يحدث استلطاف بين طارق وليلى لينطلق شرر ما يشبه العلاقة الرومانسية لتكتمل أضلاع مثلث الحب المتصارع.

اقتراب طارق من عمل عادل يضع يده على عديد من الأمور التي تتمّ في الخفاء ليصل إلى اكتشاف تعاون ربّ عمله مع الإسرائليين لإمداد مستوطنة جديدة بالمياه في الوقت الذي تنقطع فيه عن نابلس. يتشكّل صراع الفيلم الدرامي في مثّلث أضلاعه طارق وليلى وعادل وفي القلب منه نور/ملك. يقرّر طارق فضح عادل أمام أهل البلدة في يوم زفاف الأخير على ليلى، التي رفضت سابقًا الهرب مع طارق في سبيل تأمين حياة كريمة في ظلّ عادل المتنفذّ والقادر على توفير مستقبل مطمئن للعاملة الجميلة وأسرتها الصغيرة.
"عيون الحرامية" أُنجز بمساعدة مختبر صندانس لكتابة السيناريو واختير لتمثيل فلسطين في سباق "الأوسكار" للعام الماضي، والفيلم في عرضه لحكايته المتجذّرة في الواقع المظلم للاحتلال الإسرائيلي يبدو كأحد نتاجات ورش الكتابة الهوليوودية مع قفزات سردية غير مبرّرة والحرص على نثر بعض الترميزات والإسقاطات السياسية (الحديث الدائر وقت نقل طاولة البلياردو مثلًا) وتطعيم الفيلم بقدر موسيقى أكثر من اللازم، والمحاكمة المسرحية في نهاية الفيلم، والنهاية السعيدة نفسها التي تذكّرنا بالمشهد الشهير لشادية في نهاية فيلم "شيء من الخوف".
"عودة الروح" يصلح عنوانًا بديلًا لهذا الفيلم الذي حاولت مخرجته تقديم وجه آخر لحياة فلسطينيي الداخل المحتلّ وعرض النضال الوطني للفلسطيني المسيحي ضد الاحتلال، والإشارة كذلك إلى خلل النفس الفسلطينية بوجود المتعاملين مع العدو الذين يتحايلون على قهر إرادة أبناء وطنهم في سبيل طموحهم الشخصي المرتبط بالعدو، مع تركيز المخرجة على تفاصيل اليومي والمعاش للفلسطينيين في الأراضي المحتلة بما فيه من أوقات مرح وكدر وفرجة للتأكيد على تمسّك الشعب الفلسطيني بحقّه في الحياة "العادية".
التأكيد على عروبة القضية الفلسطينية كان محور الكثير من أحاديث المخرجة، ولا يظهر ذلك في كاستينغ الفيلم فقط ولكن في الاختيارات الموسيقية التي تتناثر في الفيلم فنسمع أغاني مصرية ولبنانية وفلسطينية وجزائرية، وكأن المخرجة تقول أن ما فشلت فيه السياسة ربما ينجح الفنّ في إيجاده. خالد أبو النجا وسعاد ماسي تدرّبا لفترة على اللهجة الفلسطينية وإن كان أداء الممثل المصري أوفر حظًا في الإقناع، ولم تخلُ هذه التجربة من المشاكل سواء مع سلطات الاحتلال الإسرائيلي التي تعنّتت كعادتها في استخراج تصاريح الدخول للممثلين، أو في اتهامات بالتطبيع لاحقت الممثل المصري المعارض للنظام الحاكم.



18‏/11‏/2015

"درب الصليب" لديتريتش بورجمان: ومن الإيمان ما قتل


في العام الماضي أثناء فعاليات المهرجانات السينمائية المختلفة، كنت كعادتي أتابع التغطيات الصحافية التي تقدمها المواقع السينمائية التي أتابعها وبدا واضحا بروز فيلمين ألمانيين عن غيرهما من الأفلام الألمانية الأخرى: "درب الصليب" و"فينيكس" كان اسمي الفيلمين. الأول لمخرجه الذي لم أسمع باسمه من قبل ديتريتش بروجمان (Dietrich Brüggemann)، والثاني لـ كريستيان بيتزولد (Christian Petzold) وهو واحد من مخرجيني المفضلين وأحد أبرز أسماء "مدرسة برلين" الجديدة للسينما إلى جوار توماس أرسلان (Thomas Arslan) وأنجيلا شانليك (Angela Schanelec).
"فينيكس" فيلم مميز يضيف مساحة جديدة للتقدير إلى قيمة وقامة مخرجه (وممثلته المعتادة والرائعة نينا هوس)، ولكن تركيزي في هذا المقال سيكون على فيلم "درب الصليب" للوافد الجديد في قائمة المخرجين الألمان الجديرين بمتابعة جديد أعمالهم (عُرض له فيلم جديد بعنوان "خلاص"في الدورة الأخيرة من مهرجان كارلوفي فاري، يناقش ظاهرة النازيين الجدد في إطار من الكوميديا السوداء). وبقليل من البحث وصلت إلى بعض المعلومات عن ديتريتش بروجمان: من مواليد ميونيخ في عام 1976. نشا في ألمانيا وجنوب أفريقيا و عمل في صناعة الأفلام في وظائف مختلفة بين الأعوام 1997 و2000 ليقوم بدراسة الإخراج السينمائي في أكاديمية السينما والتليفزيون في مدينة "بوتسدام" القريبة من العاصمة الألمانية. بدأ هذا المخرج أولى أفلامه الروائية الطويلة عام 2006، حين أخرج فيلم "تسعة مشاهد"، قبل أن يخرج فيلمه الروائي الثاني "اركض إن استطعت" عام 2010. وفي عام 2012 أخرج فيلمه الثالث "ثلاث غرف/مطبخ/حَمّام".
 في فيلمه الروائي الرابع، يحيلنا عنوانه إلى الطقس المسيحي الخاص بدرب الجلجثة والذي اختاره بروجمان ليضبط إيقاعا جنائزيا لفيلمه مُقسَّما إياه لأربعة عشر مقطعا ترقم المسيرة الإستعارية للبطلة (الحكم على المسيح بالموت، حمله للصليب.. إلخ) وهي تسير على درب جلجثة حديث تتماهي فيه عذاباتها مع ألم الناصري القديم جارّا صليبه الخشبي نحو حتفه. بلقطة طويلة وثابتة، شاحبة الألوان والإضاءة تمتد لحوالي ربع الساعة، يفتتح الفيلم حكايته ويُهيّيء مُشاهده لما سيتتابع من مَشاهد تحمل توقيع مدير التصوير المعتاد في أفلام بروجمان، ألكساندر ساز. على طاولة واحدة نشاهد اجتماع قِسّ شاب (فلوريان ستيتر) وحوله مستمعين صغار كنموذج مصغّر لمصانع الزحف المقدّس والطاعة الواجبة واليقين الداخلي الدائم. نستمع لنصائح القسّ الذي يدعو "رعاياه" الصغار إلى التضحية بكل متعة دنيوية في سبيل الإتحاد بالمسيح. وكأي مالك للحقيقة المطلقة من رجال الدين والناطقين باسمه، يدعو تلامذته لتوجيه "الآخرين" إلى المِثل: "حين تجدي صديقتك تستمع إلى الموسيقى، انصحيها بالتخلّي عن هذه المتعة-الخطيئة لإنها تبعدها عن السماء". حين تفرغ حجرة الدرس الكَنَسية بمغادرة التلاميذ، تنتظر ماريا (ليا فان آكن) لتسأل القِسّ عما يشغل بالها: هل تستطيع التضحية بحياتها لأجل المسيح؟ والمُشاهد بدوره لن يكون متأكدا عما إذا كانت الصبية تبنّت دعوة ذلك الكاهن في أن تكون "مُحارِبة من أجل تعاليم المسيح"، أم أنها تلبّست محنته بإرادتها قبل اقتناعها؟. لا يقدم المخرج شرحا أو تبريرا لتلك "القفزة الإيمانية" التي تأخذها ماريا من أجل التقرُّب إلى السماء، وما يقوله الكاهن حول "الخطوة الهائلة اللازمة لردم المسافة بين المنطق ولا احتمالياته" ليس سوى أحجية موجّهة إلى المتفرّجين الذين سيتابعون مسارا متداعيا ستسلكه حياة ماريا في رجائها المستمر للالتحاق بالربّ الذي يناديها.

هناك شيئا مميزا في هذا الفيلم
الأفلام لا تفوز بدب "برلين" الفضي من دون أسباب وجيهة. حتى في فئة أفضل سيناريو التي استحدثها المهرجان العريق؛ يظلّ حمل تمثال الجائزة مؤشراً جيداً على عمل يستحق التقدير. ومن الإنصاف القول أيضا أن المهرجانات السينمائية الأوروبية الكبرى تعطي اهتماما وتقديرا لمحاولات تطوير وتثوير الصورة والسرد السينمائي أكبر مما تفعل مع توثيق اليومي والمعيش. "درب الصليب" لديتريتش بروجمان يتوافق تماما مع القواعد الضمنية للفوز في "برلين": سلسلة قوية من اللوحات السينمائية ذات اللقطة الواحدة تدين بكثير من فاعليتها لأسلوبها بدلا من مضمونها. ربما من الغريب التفكير في شيء مثل "معرض سينماتوغرافي"، ولكن إذا كان ثمة فيلم استفاد من ذلك الشيء فالمؤكد أنه "درب الصليب". تقدير الفيلم على مزاياه يأتي مع ملاحظة: الأعمال التي تنال حظّها من المديح النقدي المكثّف،عادة ما تكون مدينة لأفلام معاصرة أخرى ربما تفضلها، وعلى هذا النحو يخفت بريق الأولى حين توضع في مواجهة اقتراحات راديكالية حقيقية. عمل "بروجمان"، الذي يقدّم نفسه كبحث سينمائي شديد العلمانية حول "صناعة الإيمان"، يبدو في بعض الأحيان مجوّفا ويدور حول نفسه في حلقة مفرغة من دون مقاربة دقيقة لعملية التلقين الديني المُمهِدة للثيوقراطية التي ينتقدها الفيلم. من الصعب أن تجد لفتة تهكّمية أو لقطة تتطلب الكثير لانجازها، وبنفس القدر تكون صعوبة مَحبّة المُشاهد لشخصيات الفيلم التي تأتي لتحاكي تقشّف الفيلم الأسلوبي بطريقتها الزاهدة في الحياة، ليعمل الفيلم أخيرا من خلال ثيماته المختارة كدراسة مكثّفة لمفهومي التضحية والموت.  
كل ما في هذا الفيلم يغلّفه شيء من الجِدّة الفكرية والكآبة الملازمة والقسوة المبطّنة في آن واحد. في آتون حكاية الفيلم، ماريا ذات الأعوام الأربعة عشر (بالتأكيد)، كاثوليكية بافارية ملتزمة تصبح مهووسة بالقداسة والخطيئة، تلعب دورها ليا فان آكن في أداء سينمائي نادر يعتمد على شيء آخر غير سحر التأثير الطفولي. بدلا من ذلك تبدو ماريا باردة، محافظة، تميل لاطلاق الأحكام، وبالأساس لا تدعو المتفرج للوقوع في حبها. كاتبة السيناريو "آنّا" شقيقة المخرج، تستحق بعضا من المديح على تماسك شخصية ماريا كما ظهرت في الفيلم بديلا عن اللجوء لكليشيه الفتاة التي تترك سنوات مراهقتها الصعبة وراءها في الكنيسة لتنطلق في الحياة (1). شخصيات الفيلم هم هؤلاء البشر الذين يبحثون عن شفاعات لخطايا تدركهم أينما حلّوا، مصبوبون على أن الخطيئة ملازمة للإنسان في دنيا تغريه بالشهوات فتخدش طهارته. وليس سوى صراع يومي ودائم يتبع ذلك الادراك للثقل الوجودي للانسان (من زاوية دينية بحتة)، صراع يؤمن خائضوه بربّانيته وضرورته للتحرّر من براثن الشهوة. ماريا، وهي واحدة من تلك الشخصيات، تنشأ على هذا الشكّ الأبدي في موبقات تحاصرها، فتقع الصغيرة ضحية صراع أكبر منها: صراع إيمان وإنكار، حياة وموت، وجود وعدم. تتساءل إن كان يجب عليها الافتداء بروحها لإبن الربّ كي تثبت لوالدتها المتعصّبة ولزملائها تفانيها الإيماني واستعدادها للشهادة، عملاً بـإنجيل يوحنا الذي يقول: "كُلّ مَنْ يؤمن بيسوع، تكون له حياة أبدية". تشخيص ماريا باعتبارها مُلتزمة دينيا تدفعها معاناتها أكثر إلى الإيمان وكراهية الذات معا، هو تصوّر صادق وأمين للأصولية الدينية أكثر مما قد يعترف به الكثيرون، وهذا التشخيص بالتحديد هو مكمن أهمية الفيلم وقصّته.
من المخيّب للآمال بعد ذلك أن محاولات تطوير السرد تدعيما لتلك الشخصية تتمّ إعاقتها -بدلا من تعزيزها- برمزية "درب الصليب" التي يستخدمها المخرج لهيكلة فيلمه وترقيم مشاهده. كلّ لقطة من لقطات الفيلم الأربع عشرة يسبقها تصدير نصّي، باللون الأبيض على خلفية الشاشة السوداء، يخبرنا رقم وتسمية مرحلة من مراحل صلب المسيح التي ستتصلّ بالمشهد القادم. المتفرّجون ممن هم على دراية كافية بالكاثوليكية (أغلب المتفرجين المصريين لا ينطبق عليهم ذلك الوصف) سيعلمون بالضرورة طيف المشاعر الإنسانية الذي يستكشفه هذا المسار، مع المسيح (/ماريا) الذي يقع تحت وطأة الصليب ثلاث مرّات، ويجد السلوى في طيبة الآخرين، وفي الأخير يقابل نهايته. ولكن إصرار "بروجمان" على حوار  "ثقيل" ومكثّف فوق مساحة نصّية ممتدة، ينتهي ببيعه تلك البنية الذكية "على المكشوف"، إذا جاز التعبير.

ديستوبيا الإيمان
يُصوّر بروجمان محيط بطلته في رتابته وعاديته وصرامته اليومية لتتضحّ صورة ماريا المتشرنقة داخل إيمانها وهي تكتشف أمورا غائبة عن حياتها: الحب، الغيرة، الغضب، الإيثار. يتم استهدافنا لقراءة تعنّت اللقطة الواحدة والتقسيم المرحلي ككناية عن إدراك ماريا للإيمان، إدراك "الأسود والأبيض" كمسار متسلسل من الأحجار الخطرة للوصول إلى الربّ، يتم اختباره من قبل الشيطان والموسيقى. يقابل ذلك إصرار الأم (فرانشيسكا فايس) الذي لا يلين على الاستكانة لقولبتها الفكرية، وهو ما عبَّرت عنه طيلة الفيلم بلا توقُّف وحتى بعد موت ابنتها في المستشفى. تتناوب الأم عاطفتها الأمومية وفي نفس الوقت إيمانها "الجوثيكي" بطرق وحلول "روحية" ترى فيها خلاصا لابنتها المسجاة على سرير موتها. تأتي بالقِسّ كي تحل عليها البركة، ولكن تضلّ البركة طريقها وتذهب ماريا في غيابٍ أبدي. تصرّ الأم على تأكيد إيمانها بعد موت ابنتها بقولها أن موتها "تضحية افتدت به ماريا شقيقها المريض ونالت به بركة الربّ". تصوير والدتها كمبشرّة إنجيلية بلا قلب، باعتبارها حارس النِعَم والامتنان لها، والقَيِّم على توزيع البشارة، كونها "قدرة الله لخلاص كل مؤمن"، وتكريس وقت أطول على الشاشة لخطبها وتقريعها لابنتها بدلا من شخصية مؤثرة مثل الكاهن الشاب والوسيم (والمتملّق أيضا) الذي يحدّث الأطفال في مدرسة الأحد عن كونهم "محاربي المسيح"، اختيارات كهذه تعطي الانطباع بالحسم الواقعي الذي ينحاز له صنّاع الفيلم على حساب تحويل الفيلم إلى حكاية رمزية عن الحياة الحديثة. مَشاهد كثيرة انتظرتْ لحظة انفجار والدة ماريا بالغضب على مخالفة ضد الرب، بنفس الطريقة التي نقضي فيها الوقت مع أفلام هانيكى وكيسلوفسكي منتظرين لحظة من الفُحش أو العنف أو أيا من علاماتهم المميزة. هنا لا يفعلها بروجمان بالطريقة المثلى.
المَرجع الآخر للفيلم يمكن العثور عليه عند المخرج السويدي روي أندرسون (Roy Andersson)(2)، الذي تميل أنطولوجياته الفيلمية العبثية إلى توظيف مشابه للمدّة الزمنية للّقطات والإضاءة وباليتة الألوان والاقتضاب الحواري. في هذا الصدد، يملك بروجمان المقدرة على منح فيلمه الازدهار الشكلاني الذي يستخدم بشكل جيد رغبة الجمهور في أسلوب اللقطة الواحدة الطويلة. حين تمرض ماريا بشكل غير متوقع وتنهار في حفل تعميدها، يتم سريعا استبدال الديكور الفاخر والمذهب للكاتدرائية بمكتب طبي بارد ومبالغ في تعقيمه، وبمعاونة حمولة بصرية قوية تذكّرنا بالواقع بواسطة لوحات الصليب (3) يقدّم بروجمان قطعة من "النحو" السينمائي الفاتن. الثلث الأخير من الفيلم يصوّر ماريا في نزولها عن قمتها الإيمانية إلى ما يُفترض أن يكون "صعودها اليسوعي"، يضرب بقوة تكافىء باقي أجزاء الفيلم. التلقين الذي تسبّب في ضياع أمنيتها في الموت مُتخفّفة من ثِقل الخطيئة، فشل في إيصال ماريا للطهارة التي وُعدت بها، ولكن ينتهي الفيلم مع لقطة لا تُمحى لزميل المدرسة الذي يشاهد رافعة تهيل التراب على قبرها في يوم شتوي غائم، الصليب بجوار القبر مائل إلى الأرض والولد يرمي بوردة بيضاء إلى ماريا في قبرها.
مع كل هفواته -وكثير منها يبدو مدفوعا بالرواج النقدي لأسلوب كان يمكن للفيلم الاستفادة منه بصورة أكبر- فإن "درب الصليب" يظلّ أكثر من مجرد فيلم يوفّر لحظات "عميقة" عن الدين والإيمان، بل هو ابداع بصري قادر على مغالبة قيوده ليقدم فيلما صارخا ولكن محدد ويعرف هدفه جيداً، ليخرج مُشاهده في نهاية هذا الدرب الكابوسي بخبرة ثقيلة عن التحريض العقائدي الذي لا يمنع التقوى وكل الأماني الطيبة للمؤمنين من زلّات الفهم الخاطيء والمدمّر للأديان وتعاليمها.


هوامش:

(1) يمكن الإشارة إلى فيلم قريب جغرافيا وزمنيا من فيلمنا وهو الفيلم الهولندي الجميل (Dorsvloer vol confetti) والذي قارب موضوعا مشابها من دون تفادي ذلك الكليشيه.
 (2) بحيث بسيط على جوجل ومقارنة فيلم بروجمان بفيلم أندرسون "أنت، الحياة" (You, the Living) ستوضّح مدى تشابه الفيلمين.
(3) اللقطات الأربع عشرة المعروضة هنا تحاكي النقوشات الخشبية والرسومات التقليدية في صحن الكنيسة الكاثوليكية.