‏إظهار الرسائل ذات التسميات Short take. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات Short take. إظهار كافة الرسائل

24‏/2‏/2016

الصحفي في السينما...متن يبحث عن هامش

من فيلم "سبوتلايت" لتوماس مكارثي

في فيلم أسود للحملان (2007) قدّمت ميريل ستريب دور جانين روث وهي صحفية أمريكية معارضة للحرب التي قادها جورج بوش الإبن وإدارته على أفغانستان والعراق بحجّة محاربة الإرهاب. في أحد المشاهد يدور حوار بينها وبين السيناتور الأمريكي جاسبر إيرفنج (توم كروز)؛ يبدو الحوار مثل مباراة للشطرنج يحاول فيها كلاهما المناورة واقناع الآخر بمنطقه الخاص أو الإيقاع به في فخّ الأفكار المتناقضة. السيناتور يروّج لأفكاره وخططه العسكرية لانهاء الحرب على القاعدة وطالبان والصحفية العجوز تستعيد مشاعرها الثورية الغاضبة حينما كانت في شبابها تعارض حرب فيتنام في الستينيات.
جانين روث لم تكن هي الصحفية الوحيدة التي اهتمّت بها السينما الأمريكية التي ترى أن فساد الصحفي أشد وقعًا من فساد السياسي لدى الرأي العام. فالصحفي كان بطلًا حقيقيًا في كشف فضيحة "ووترغيت" الشهيرة والتي قدّمتها هوليوود في فيلم "كلّ رجال الرئيس" (1967) من إخراج آلان باكولا الذي جسّد فيه روبرت ريدفورد وداستن هوفمان شخصيتي الصحفيين بوب وودوارد وكارل برنشتين اللذين كشفا تنصّت الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون على مكالمات مكاتب الحزب الديمقراطي المنافس في مبنى ووترغيت، وهي القضية التي أدت إلى إعلان نيكسون استقالته في عام 1974. يبيّن الفيلم مدى صعوبة مهمة الصحفيين والمخاطر المتعلّقة بحياتهما وسمعتهما فيما لو استطاع الرئيس الأمريكي إخفاء الأمر وتكذيبهما.
في السنة الماضية قدّمت السينما الأمريكية مجموعة من الأفلام اتخذت الصحفي وعمله مرتكزًا لحكايتها، نذكر منها " تراينريك" لجود أباتو وآيمي شومر و"نهاية الرحلة" عن مقابلات أحد صحفيي مجلة رولينغ ستون مع الروائي الأمريكي الشهير ديفيد فوستر والاس، وفي "قصة حقيقية" يلعب جونا هيل دور مراسل صحفي يُفصل من عمله بنيويورك تايمز. ومؤخرًا، ظهر فيلمان تناولا من جديد مسألة أخلاقيات الصحافة ومواجهتها للفساد وهما "سبوت لايت" لتوماس مكارثي و"حقيقة" لجيمس فاندربيلت.

"سبوت لايت" من بطولة مارك روفالو وستانلي توتشى ويحدّثنا عن فريق صحفي بنفس الإسم من صحيفة بوسطن جلوب أنجز في عام 2002 تحقيقًا حول الاعتداءات الجنسية المرتكبة بحق أطفال من قبل قساوسة في أبرشية بوسطن، وأدى ذلك حينها لاستقالة برنارد لوو كاردينال بوسطن. ويُذكر أن الفيلم تم ترشيحه في سباق الأوسكار للحصول على ست جوائز من بينها جائزة أفضل فيلم.
أما فيلم "حقيقة"، والذي بدأت عروضه التجارية قبل شهرين ويضطلع ببطولته كيت بلانشيت وروبرت ريدفورد، فيستند على مذكرات الصحفية ماري ميبس في شبكة (سي بي إس نيوز) والتي تسبّب تقرير تلفزيوني لها بثته القناة الأمريكية في عام 2004 حول سجل الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش في الخدمة العسكرية؛ تسبب في طردها من عملها قبل شهرين من الإنتخابات التي كان يسعى فيها بوش إلى الفوز بفترة رئاسية ثانية.

 في السينما العربية، وفي القلب منها السينما المصرية، لا يزال دور الصحفي مهمّشًا ومسطّحًا وغالبًا ما ينحصر دور الصحفى في نمطين لا ثالث لهما: إما شريف نزيه يتصدّى للفساد، ينتصر أحيانًا أو يكون ضحية للفساد فى أحيان أخرى، وإما وصولي ومضلّل للعدالة لا يقيم وزنًا للمباديء أو أخلاقيات المهنة. وربما يمكن القول بأن محجوب عبد الدايم "القاهرة 30" (1966) مثّل الظهور الأشهر لشخصية الصحفي في السينما المصرية. كان عبد الدايم نموذجًا للصحفي الوصولي الوضيع الذي يقبل الزواج من حبيبة صديقه السابق وعشيقة الرجل الذي يتولّى رحلة صعوده في عالم المدينة. ولكن قبل عبد الدايم كان هناك رؤوف علوان في "اللص والكلاب" (1962) ويمكن ملاحظة أن كلا الفيلمين من تأليف نجيب محفوظ، أي أن إفراد مساحة رئيسية للصحفي في السينما المصرية جاءت من نصّ أدبي وليس سيناريو أصلي مكتوب للسينما مباشرة. (وذلك مع إهمال الظهور الشهير لعبد الحليم حافظ كمصوّر صحفي في فيلم "إنت عمري" الذي سبق "اللص والكلاب" بعامين تقريبًا).

توالت بعد ذلك ظهورات شخصية الصحفي في السينما المصرية: عادل إمام في "الغول" (1982)، وآثار الحكيم في "بطل من ورق" (1988)، أحمد زكي في "إمرأة واحدة لا تكفي" (1990)، ونادية الجندي في "الإرهاب" (1989)، ونبيلة عبيد في "قضية سميحة بدران" (1990)، وسمير صبري في "دموع صاحبة الجلالة" (1992)، وحنان ترك في "الآخر" (1999) وغادة عادل في "عيال حبّيبة" (2005) ومي عز الدين في "خيانة مشروعة" (2006).

ورغم أن كثيرًا من الأفلام المصرية تناولت الفساد في السنوات الماضية إلا أنها لم تحاول رصد دور الصحافة الجادة في محاربته إلا في محاولة وحيدة قام بها المخرج خالد يوسف في "خيانة مشروعة" ولم يكن للصحافة نصيب كبير من الإهتمام في الفيلم الذي، مثل كلّ أفلام المخرج، يحتوي على تركيبة عشوائية من الميلودراميات الفاقعة والإنقلابات السردية. وما زالت شخصية الصحفي في حاجة لإهتمام السينما العربية بها من دون مبالغات تضعها في مرتبة أصحاب القوى الخارقة أو تهبط بها إلى درك الشياطين والأبالسة، فالصحفيون حاليًا هم أحد الفئات النادرة التي تتصدّى للفساد ومراقبة السلطة في الوقت الذي يتعرّضون نتيجة ذلك إلى الترهيب والإبتزاز والسجن.

19‏/8‏/2015

عن جومانة حدّاد وليساندرو ألونسو والسينما المعاصرة


قبل 6 سنوات، صدرت في القاهرة مختارات شعرية للشاعرة اللبنانية جومانة حدّاد تحت عنوان "عادات سيئة" وكنت حينها مراهقاً في عامه الـ18 منبهراً بجرأة النصوص وكاتبتها. في حديث مع أحد أصدقائي (وهو شاعر وطبيب أيضاً) كشفت عن إعجابي بتلك "الكتابة" فكان ردّ صديقي أنها "بتكتب قصايد مظبوطة وفيها كل مستلزمات قصيدة النثر بس النتيجة بضان من غير روح".

قبل 4 سنوات شاهدت "Fantasma"  للأرجنتيني ليساندرو ألونسو/ Lisandro Alonso قبل أن أشاهد فيلمه التالي "Losmuertos" وتكوّن لدي إنطباع بأن " "Fantasmaفيلم يحمل رؤية كارهة للبشر، وهو إحساس قفلني شوية من الفيلم. ولكن بعد قضاء 78 دقيقة مع فارجاس، تسائلت كيف ستختلف تجربتي معه عن سابقتها، وكيف ستؤثر على رؤيتي لها؟
****
أميل إلى توصيف "Los muertos" بالفيلم "المُهمّ"، لأنه يفتح الباب للتفكير في "تعقيد" السينما الفنية المعاصرة (contemporary art cinema). العديد من الأفلام التي أحبّها تتبع عدداً من "الأعراف السينمائية": لقطات طويلة، كاميرات ثابتة، وجوة تعبيرية، وتجنّب للقطات المقرّبة ولقطات ردّ الفعل، القليل من الصوت غير الموضوعي، وعناية خاصة بالفضاء الفيزيقي (بالتحديد العالم الطبيعي من أشجار وأعشاب وأوراق ومسطحات مائية.. إلخ) حتى أصبح ذلك أشبه بمنهج أو كتالوج. النقّاد والسينيفيللين من ناحيتهم الذين ينتمون لتلك النوعية من الافلام دون غيرها، يبدون الكثير من التسامح -كما أعتقد- تجاه أخطاء تلك الأفلام. مثلاً أتذكر بعد مشاهدتي لفيلم "The Mourning Forest"  لليابانية ناومي كواسي/ Naomi Kawase وقفت وفكّرت: "إذا كان هذا الفيلم يحتوي على كلّ شيء أحبّه في السينما، لماذا إذاً تبدو طريقته في "التجاوز" حسابية بالكامل وفارغة بالنسبة لي؟". نفس الأمر تكرّر بصورة أكثر إزعاجاً في الفيلم الأخير  للمخرجة "Still the Water" وهو ما أحزنني شخصياً على موهبة مثل موهبة كواسي التي أسرتني بباكورتها الإخراجية "Moe no suzaku".

الشيء المهمّ بخصوص "Los Muertos" أنه يستكشف العلاقة بين الشكل والمضمون من خلال إستعمال كلّ إستعارات "السينما التجاوزية" (transcendental cinema) والعبث بها عن طريق أخطاء السرد مع أصداء الخوف أو العنف التي تطبع جوّ الفيلم. شيء يذكّرني بإجابة براين إينو Brian Eno /عندما تمّ سؤاله ما إذا كان يعتبر نفسه أبو موسيقى "New Age"  فأجاب: "لا، موسيقاي تحمل شرّاً بداخلها".

مونوكروم الألفية الجديدة (5): جي مادين وفانتازيا الأبيض والأسود


"جي مادين/ Guy Maddin ( ولد 1956 في مانيتوبا بمقاطعة وينيبيج الناطقة بالإنجليزية) سيناريست ومخرج كندي للعديد من الأفلام الروائية الطويلة والقصيرة، أخذ شهرته وتميّزه من ولعه بإعادة تمثيل شكل وأسلوب الأفلام الصامتة وبواكير السينما المتكلّمة في أفلامه والتي تدور عادة في نسخ مؤسطرة من مدينته وينيبيج. في سعيه لإعادة أساليب وأمزجة ميلودراميات تلك الفترة المبكرة من تاريخ السينما، يعود مادين إلى الأفلام الصامتة لجمهورية ألمانيا الفايمرية وبدايات السينما السوفيتية لصياغة أسلوب يعتمد بالأساس على الكليشيهات والحالات السيكو-جنسية والقصص الغريبة، مغلّفًا ذلك جيدًا بالفكاهة المناسبة. إنه ذلك الإدراك الذاتي والدمج السوريالي للتقنيات المبكرة لصناعة الفيلم مع حساسية ما بعد حداثية؛ ما يعطيان أفلام “مادين” النَفَس الخاص ويجعلانه “سيّد الفانتازيا السينمائية” على الرغم من استمرار التعامل الأكاديمي والنقدي مع عمله باستخفاف وقلة تقدير في كثير من الأحيان."


لأسباب غامضة تعذّر رفع المقال هنا على بلوجر، لذا يمكن لمن يريد قراءته الذهاب إلى هناك  12

 نُشر في التقرير الإلكترونية 


2‏/8‏/2015

مونوكروم الألفية الجديدة (3): ثلاثة أفلام أوروبية

 
The White Ribbon (2009)

"أعتقد أنه يجب عليّ قول الأحداث الغريبة التي حدثت في قريتنا" يخبرنا الصوت في بداية الفيلم، ثم يضيف: "ربما (الأحداث الغريبة) توضّح بعض الأشياء التي حدثت في هذا البلد." رحلة هانيكي للتوضيح مختلفة كثيرا ولكن هناك شيئ مزعج وصادم في محاولة الفهم السينمائية تلك المصوّرة بطبقة رائعة من الأبيض والأسود. إنه العام 1913، طبيب في قرية صغيرة يكسر عظمة ترقوته حين يتعثّر حصانه بسلك مخفي في الأرض. الشرطة تقوم بتحقيق وباقي القرية تثرثر وتخمّن. ما من جاني واضح وسلسلة من الأحداث المروّعة تبدأ في التراكم بعضها على بعض. يستمرّ الفيلم في تحويل بؤرة تركيزه بين مجموعات متنوعة من الشخصيات: الطبيب وعشيقته والأطفال، البارون وأسرته، القسّ وعشيرته الخائفة، وأحيانا صوت الراوي، مدرس القرية، الذي يبدّل أحداث الفيلم من وجهة نظر مستقبلية.
النساء - والفتيات - في عالم الفيلم يتحدد وجودهن في المقام الأول من خلال نظرة وإرادة الرجال. وبالنسبة لأطفال فالحياة كئيبة، ولكن يبدو أن هناك مزيدا من كآبتها مخصص للفتيات. هناك صدمة عميقة في فيلم هانيكي، ومجتمع بروتستاني قائم على هيراركية قمعية تجعل العجائز الاسكتلنديين في فيلم " Breaking the Waves, 1996" للارس فون ترير أشبه بمهرجين. في مركز ذلك القمع يتم تقديم بورتريه للقس (Burghart Klaussner) وعائلته: رجل دين صارم وقاس، يقوم بجلد أبنائه عقابا على أكثر الافعال براءة. والأطفال بدورهم يردّون بوضوح، ولكن لديهم تلك العادة الغريبة في الاختفاء –دائما لأسباب تتعلّق بالأدب السلوكي- عندما تبدأ أكثر الأشياء المقلقة في الحدوث.
وهنا يجب الاشارة إلى أداء الممثلين الصغار الرائع والمذهل، ولعل سبب ذلك يرجع إلى حرص المخرج في اختيارهم، فقد أجرى اختبارات أداء لأكثر من 7000 طفل قبل البدء في التصوير. كما أن الفيلم تضمّن الكثير من الحوارات الفلسفية والتي جاء أقواها بين هؤلاء الصغار مثل ذلك الحوار بين ابن الطبيب وأخته الكبرى عن ماهية الموت وأسبابه.
ميشيل هانيكه سينمائي لا يتساهل في عمله، ومثير للاعجاب في استكشافه للتشويق بطرق وأدوات مختلفة دون اللجوء في أي مناسبة إلى خلق الإثارة thrilling. الثيمة الأساسية في أفلامه هي التأصيل لفكرة العنف والبحث عن أسباب تطرف السلوك الإنساني. في فيلمه "Funny Games, 1997" يقدّم قصة مروّعة عن شابين يقتحمان بيوت الاثرياء ويقومان بـ"ألعاب دموية مرحة" تستدعي رعبا تفشل أغلب أفلام الرعب في ايقاظه. وبينما لا يقدّم هانيكه تمهيدا تأسيسيا لشخصياته ودوافعها إلا أن العنف يفرض نفسه في صدارة الصورة، وكأن المخرج يبصق فكرته الملعونة في وجه المشاهدين ليتفكّروا فيها. تكنيك مشابه يستخدمه هانيكه في فيلمه الفائز بسعفة "كان" الذهبية لعام 2009 ولكن بكثير من الاضمار والتخفي تحت أقنعة القمع السياسي والديني والمجتمعي.


يأخذ هانيكه قطعة صغيرة من فترة ما قبل الحرب العالمية الأولى (قرية بروتستانتية بشمال ألمانيا، عالم داخل عالم) ويظهر بعضا من أسرارها وبالأخص العنف الكامن فيها لنصل في نهاية الفيلم إلى خبر اغتيال ولي عهد النمسا في البوسنة، تلك الشرارة الحقيقية التي فجّرت الحرب العالمية الأولى ويتوقف الفيلم عند تلك اللحظة ليترك مشاهده يقوم بدوره في التساؤل عن غموض يلفّ تاريخ الانسانية في لحظاتها الفاصلة.

The Artist (2012)

عندما أخبرت البعض حول فكرة الفيلم، ضحكوا علي. أصدقاء، ممثلون، منتجون، كلهم ضحكوا عليّ. قالوا لي: حسناً، حسناً، أخبرنا ماذا تريد أن تفعل بالضبط؟ بالنسبة لي، رغبت في صنع فيلم ساحر وخارج عن السياق. لكن، لا أحد كان يعتقد أن فيلماً كهذا سيكون صالحاً للتسويق".  - ميشال هازانافيتش


السبب الرئيسي لتقدير ذلك الفيلم الفائز بحفنة من جوائز الأوسكار، هو جرأته. إذا أخبر أحدهم صديقه من عشر سنين مضت أن ثمة فيلم شبه صامت ومصور بالأبيض والأسود ومستقل (بالمعايير الامريكية) سوف يحصل على أوسكار أفضل فيلم في غضون سنوات قليلة، فأغلب الظنّ أن الضحك الساخر سيكون في انتظاره. ولكن المخرج مايكل هازانافيتش Michel Hazanavicius انتزع القدرة على حكاية هكذا قصة بطريقته الخاصة ويا لها من حفاوة مبالغ فيها تلك التي قوبل بها. فجزء كبير من الاشادة والحفاوة الكبيرة التي استقبل بها الفيلم كان نوستالجيا بامتياز، فهذا فيلم بسيط جدا ومصور بـ"أبيض وأسود" لا يمتّ بصلة لذلك الأبيض والأسود زمن السينما الصامتة. إننا في العام 2012 والصورة فائقة الجودة تعطي ذلك الانطباع الـ"واو" بجماليات المونوكروم، كما أن الفيلم قريب جدا من الجماليات التقليدية للسينما الامريكية وهو ما يفسّر الشيوع الكبير له في أمريكا أكثر منه في فرنسا (بلد الانتاج وموطن أغلب صانعي الفيلم بما فيهم مخرجه وكاتبه).

تدور أحداث الفيلم حوالي سنة 1927، السنة التي ستشهد ظهور أول فيلم سينمائي ناطق، وتعرض قصة جورج فالنتين (Jean Dujardin) الممثل الذي يعتبر من أفضل ممثلي عصره، ويواجه شبح أفول نجوميته. يرفض الفنان أن يمثّل في الأفلام الناطقة ويصرّ على التمسك بعمله في السينما الصامتة، في نفس الوقت الذي تداعب الشهرة والنجومية صديقته الممثلة الشابة بيبي ميللر (Bérénice Bejo) التي بدأت العمل في الأفلام الناطقة.
بطريقة مشابهة في بساطتها لأفلام تلك الفترة، يعرض المخرج مخاوف رؤيته لفن السينما كفعل مبهج، ويمرّ كذلك على أزمة بطله الناجح والخوف الهيستيري من فقدان امتيازات النجاح في عالم جديد ومتغيّر، وكيف يمكن للانسان تدمير نفسه باختياره لقرار ما تتهاوى بعده كل أساسات الأمان الوجودي.
وكي يخفّف هازانافيتش من قسوة قصته التراجيدية يقوم بتطعيهما ببعض العناصر الكوميديا التي يمكن قبولها بقليل من التجاوز (مثلا، الكلب الصغير المرافق لفالنتين)، ولكنه يفشل في الحفاظ على اتزان قصته والانجرار وراء التماهي المجاني مع السينما الصامتة بدون اعتبار للسياق الزمني المختلف، فتأتي النهاية السعيدة بعد أن يوافق فالنتاين على مشاركة ميلر الرقص في فيلمها الجديد، فيستعيد توهج الأيام الخوالي ويعيش في تبات ونبات مع امراته التي تنتشله من براثن الانتحار.
"الفنان" أول فيلم صامت يحصد "الأوسكار" منذ 83 سنة.  أما جان دوجردان فهو أول ممثل فرنسي ينال الأوسكار.

Tabu (2012)
"السينما لعبة" – ميجيل جوميز

يقسّم المخرج البرتغالي ميجيل جوميز/ Miguel Gomes فيلمه إلى قسمين (يسبقهما مدخل مراوغ لحكاية قديمة تعرض في احدى دور السينما في لشبونة المعاصرة) الأول بعنوان "فردوس ضائع" تدور أحداثه في لشبونة في الزمن الحاضر، والثاني بعنوان "فردوس" يستعيد حكايات الشباب في أفريقيا. فكرة التقسيم مفارقة رائعة بالطبع ، فكما يعلم الجميع، ومثلما يضعها مارسيل بروست بشكل مناسب، فإن الفردوس الوحيد هو الفردوس المفقود.

بعد ثلاثة أرباع ساعة من الفيلم لا نشاهد فيها سوى أطلال ماضٍ غامض لامرأة ثمانينية غريبة الأطوار تحمل إسم أورورا تفقد سيطرتها على الأمور بفعل الألزهايمر. تعتني بها خادمتها وجارتها المخلصة بيلار التي تكافح بدورها لمراودة وحدتها بالتزام كاثوليكي ويساري يناسب طبيعتها التي تحاول تخفيف آلام الآخرين وخطاياهم.

 وعندما تبدأ قصة شباب أورورا عند سفح جبل تابو في موزمبيق يصبح واضحا حضور الكاتبة كارين بليكسن/   Karen Blixenوأفريقيتها في تحيّة متخفّية من المخرج والناقد ميجيل جوميز، والذي يوجّه تحيّة أخرى للسينما الصامتة سواء باقتباسه لاسم الفيلم من فيلم مورانو/ F. W. Murnau، أو طريقة تصويره بالأبيض والأسود (إدارة غنية وتملء العين من روي بوساس/ Rui Poças)، واستغنائه عن الحوار. جوميز هنا ربما يستشهد بحكاية استعمارية مبكرة تستعيد روبنسون كروزو أو يختار خادمة من مستعمرات الماضي تعتني بحفيدة المستعمر الخرفة في بلدها الذي أصبح يعاني اقتصاديا ، ولكنه أبدا لا يقلّد أحدا.
 يوغل المخرج في اللعب ويلمس كل ما هو مبتذل بلمسة شعبية ((pop تضيف شيئا من السحر حيث نستمع إلى أغانٍ ستينياتية تضمّن تنويعات صوتية برتغالية، وفي الوقت نفسه يتحدّث عن سخرية وعظمة المشاعر. اللمسة ما بعد الحداثية تمزج الضحكة المكتومة بالرومانسية الشديدة.
فانتازيا سينمائية مُطرّزة باتقان ومزاج يعتني بالصمت. شريط الصوت عبارة عن خليط مدهش من الصمت-الكلام (لايوجد حوار، ولكن صوت) هو المقابل لسحر استعادة حب فاشل دون العودة لشروطه المستحيلة. بدايات الحرب الاستعمارية، والأجواء الداخلية لمجتمع استعماري صغير أشبه بجالية منقرضة، والرغبة الممتدة بين أورورا وعشيقها فينتورا، والأغاني الأفريقية، وأصوات الغابة،، كل شيء يساهم في خلق فيلم رائع يفرض قرابته على فيلم "India Song" لمارجريت دورا ومنفاها وغرابته المدموغة باللاطمانينة. يمتلك الفيلم قوة استثنائية لرفع تلك الحكايات المنسية في روايات المغامرات، الحكايات المحتشدة بالحب والرومانسية والجموح والمفاجآت والحلول الصعبة، رفعها إلى مستوى آخر من المعالجة وتشبيكها –بكثير من الروقان إن جاز التعبير-  في مشروع سينمائي يتجاوز تقليدية الوسيط والروايات الرسمية عن الماضي الاستعماري وتأثيراته في حكاية سردية مبنية على صمت غزير يغذّي سحر الصورة السينمائية.
في أحد الرسائل المكتوبة بلغة أدبية بليغة تقول أورورا لفينتورا بأن ذاكرة العالم أبدية ولا يمكن لأحد الفكاك منها. تموت أورورا وفي المستقبل القريب يلتحق بها فينتورا، بينما التمساح، الذي يفتتح ويختتم الفيلم، يبقى شاهدا صامتا على حكاية الحبّ المحرّم. تمساح حزين و كئيب مع سيدة من زمن مضى. زوج لا ينفصل يجمعهما اتفاق غامض لم يحطّمه الموت.

مونوكروم الألفية الجديدة (2): ثلاثة أفلام أوروبية


Les amants réguliers (2005)

"هؤلاء الذين يصنعون نصف ثورة، لا يصنعون شيئا سوى حفر قبرهم"

المخرج الفرنسي فليب جاريل/ Philippe Garrel، الذي صنع في العشرين من عمره فيلما (فُقد حاليا) عن باريس أثناء تظاهرات مايو 1968 الشهيرة، يعاود زيارة تلك الفترة في تجربة سينمائية ملحمية وحميمية.
تتمحور القصة حول علاقة الحب بين فرانسوا، وهو شاعر في عشرينياته يقوم بدوره لويس جاريل (ابن المخرج (لعب دورا مشابها ولكن أقل أصالة في "The Dreamers" لبرتولوتشي) وليلي (الرقيقة كلوتيد هيسم/ Clotilde Hesme)، نحّاتة شابة من أبناء الطبقة العاملة. علاقة مؤطّرة بالانهزامية السياسية وروح التخلّي، ينتقدها المخرج بالاشارة إلى إدمان بطله للأفيون. يضع جاريل خلاصة أربعة عقود من الأفكار والتجارب السينمائية في دراما رمزية بقدر واقعيتها. يؤفلم الثورة/الانتفاضة الشبابية بتجريد مسرحي مبسّط محوّلا إياها إلى حلم يقظة مستعاد. هنا "مايو 68" ولكن بدون سياسة: تدفق للرغبات الشابّة، وتوق إلى يوتوبيا حسّية على الأرض وبالطبع مثل تلك الأحلام تأتي إلى نهايتها في لحظة ما.
على الرغم من استجلابه لفردوس معاش في لحظات عابرة (مثلا، عندما يتابع فرانسوا وريد نابض في عنق ليلي أثناء نومها)، فإن جاريل يؤكّد أن "العالم" الذي جاء بعد الثورة كان ينتمي إلى هؤلاء الناس العمليين بأقدام ثابتة على الأرض وليس الحالمين الذين يظنون أن القائهم زجاجات المولوتوف على أفراد الشرطة سيغيّر العالم ويجعله أفضل. لو أن شخصا آخر قال ذلك الكلام غير المخرج الراديكالي المولع بالجماليات، ربما بدا رجعيا. ولكن ما يجعل جاريل يقول ذلك هو إدراكه الحزين المستخلص من النظر بأثر رجعي إلى ماضيه الخاص وأوهام الشباب وأحلامه الشاهقة.

صُوّر الفيلم بالأبيض والأسود الساحر من قبل مدير التصوير المخضرم ويليام لوبتشنكي/ William Lubtchansky. صور تتقطّر فيها ميلانكولية جاريل ونظرته التأمّلية والرومانتيكية التي تتماس مع تراث السينما الصامتة (كما ينعكس ذلك في مشهد عزف البيانو المنفرد). المسحة الرمادية المضافة للصورة تعطي الشعور ببرودة معدنية، وحين تقوم ليلي -في تحول براجماتي من جانبها- بتحدّي فرانسوا على المضي قدما واستكمال حياته، فإن برودة الواقع الصعب تصبح أكثر وحشية.
بخلاف الأفلام الزمانية (Period films) التي ينصبّ تركيزها على الأزياء والديكور وثرثرة شخصياتها التي تحاول توضيح المزاج الغالب على الفترة التاريخية التي يقدمها الفيلم، يقدّم جاريل ثورته الخاصة وشخصياتها كما عرفها: يقضون السنوات التالية في تغيير لاشيء تقريبا، يداومون على الانتشاء بالمخدرات والاستماع إلى الموسيقى، ثم يموتون. ما من أبهة هنا، فقط صور لشباب بوجوه مزيّتة ومليئة بالبثور، قمصان متعرّقة، وشعور مهوّشة ومرور الوقت البطيء الذي يأتي بالتردد والملل. في 178 دقيقة هي مدة زمن الفيلم، يقدّم جاريل- بأسلوب مينمالي خالص- خطابا حزينا ولا تنقصه النوستالجيا المربكة عن الحب في العشرين، ومحبة الأحلام المستحيلة.

Control (2007)

بيوغرافيا إيان كرتيس/ Ian Curtis المحتفى بها نقديا وجماهيريا وقت صدورها كواحدة من أفضل السير الموسيقية في السنوات الأخيرة، بتوقيع المخرج أنطون كوربجن/ Anton Corbijn في أولى تجاربه في الاخراج الروائي. قبل هذا الفيلم عمل كوربجن في اخراج الكليبات المصوّرة ولم تزل درّته هو الفيديو الطوطمي لأغنية أتموسفير لفريق Joy Division الغنائي، وهو عبارة عن نشيد بصري مصنوع بمزاجية واضحة وتم تسجيله بعد وفاة إيان كرتيس، المغني الرئيسي للفريق (Lead Vocalist)،  بثمان سنوات.

الانفتاح الجميل لموسيقى الفريق الغنائي شكّل الموسيقى التصويرية لكثير من دروب المراهقة المضطربة للشباب الانجليزي، وأفلمة قصة الفريق كان متوّقعا تماما. ولكن هذا التوقّع تحوّل في بعض الدوائر إلى حالة من الخوف لأن قصة الفريق المانشستراوي ورحيل مغنيها الرئيسي خلقا واحدة من أكبر الأساطير في المشهد الموسيقى الانجليزي. فكورتيس كتب وغنّى كلماته التي تشبّعت بتفاصيل حياته الشخصية ومات في الثالثة والعشرين من عمره، ومنذ ذلك الحين تمّ ترسيم صورة "كولتيّة" cult له كبطل مات ميتة مآساوية في سبيل فنه.

يعود إذا كوربجن إلى كرتيس، وينجز فيلما عنه لا يسعي فيه لأسطرة المغنّي الذي لعب سام رايلي/ Sam Riley دوره بالغموض المناسب لحياة متأرجحة بين أضواء الشهرة وثنايا الذات. كورتيس تتم رؤيته كمجرد طفل آخر يحب أن يدخّن في غرفته، يستلقي بملابسه الداخلية، ويتصفّح الموسيقى التي تتحدث الي مراهقته وسخطها المعتاد. سامنثا مورتون/ Samantha Morton هي زوجته الشابة ديبورا، التي تستقيل من حياتها لتجفف ملابسه الداخلية منذ أصبح المغني الرئيسي لجوي ديفيجن.
سام رايلي استطاع أن يصل لجوهر شخصية المغني، وأدائه "الكهربي" أعطي مصداقية لفكرة أن كورتيس كان يغرق عميقا في كل مرة يعتلى فيها خشبة المسرح. هذا الممثل الشاب يظهر الأيام الأخيرة لكورتيس وكأنها جلسة لطرد الأرواح الشريرة، والمخرج بدوره يبدو مؤيدا لنظرية أن ندم كورتيس على زواجه بديبورا في سن صغيرة كان مصدر شغفه الوحيد.


الفيلم مستوحى من كتاب ديبورا كورتيس "لمس من مسافة بعيدة". استخدام مذكرات الشخص الأقرب لايان كورتيس كأساس للفيلم سمح للقصة بحسّ من المصداقية غالبا ما غاب عن السير الموسيقية لفرق أخرى. تصوير كورتيس في الكتاب ليس كواحد من آلهة الروك، ولكن شاب مع مشاكل داخلية ونوبات صرع وصعوبات بفعل المخاوف المالية ومهنة تأفل بينما تبدأ في الازدهار. والنتيجة النهائية خليط حزين وقبيح من حياة مربكة ومُعبّر عنها بصراحة.
هناك متواليات تبدو كما لوكانت أطول من اللازم أو أقل ثقلا وأهمية في اقتراحها للحظات ستصبح مصدرا لأغنية لاحقة، ولكن تلك اللحظات لا تطغى أبدا، فالمخرج وكاتب السيناريو مات جرينهالج يتمكنان من الامساك بحسّ الفكاهة والعلاقة الرفاقية بين أعضاء الفريق. التمثيل جيد وتصوير الفريق جاء موفّقا وما يثير الاعجاب هو أداء الممثلين للأغاني بأنفسهم. ورغم الاشارة لسهولة لعب اغاني الفريق فإن أدائها بذلك الحماس والطاقة والاحساس التي حملها الممثلون لهو عمل رائع يضيف إلي مصداقية الفيلم. سامانثا مورتون قدّمت دورا هجينا من التعاطف والاقصاء والعزلة.. ولكن الأداء الفاصل على الارجح سيكون من نصيب توني كيبيل Toby Kebbell الجمل الحوارية والهزل الصارح وأحيانا الرقيق محجوز لشخصيته بالتأكيد.
بصريا وموسيقيا هناك كثير من الصور الايقونية، لقطات من الحفلات حفل ولقاءات تليفزيونية تتوافق تماما مع أسلوب تصوير الفيلم بالأبيض والأسود. قام المخرج بعمل جيد حين تمكن من اعادة عرض تلك الصور والعروض كلقطات ثابتة ثم تربيطها في بعض الأحيان بسهولة تامة لنسج قصة حياة كورتيس بعد الزواج في ماكسفيلد.
الفيلم يستفيد من عيوبه كذلك؛ فأسوأ شيء يمكن حدوثه هو فيلم سطحي ومتوازن وبنهاية سعيدة. هناك شيئا ما بخصوص قصة الفريق وتراجيديا زواج كورتيس والتي يمكن تخيلها في فيلم من انتاج mtv بتبسيط مفرط وسنتمنتالية فاقعة، ولكن كوربجن في فيلمه الروائي الأول لديه نبرة محايدة تقريبا و الكثير من زوايا التصوير الواسعة التي تعيد إلي الأذهان عنوان كتاب ديبورا.

La morte rouge (2006)

عنوان الفيلم هو إسم مدينة كيبيكية متخيّلة في فيلم ""The Scarlet Claw واحد من سلسلة أفلام المحقق شارلوك هولمز، وهو الفيلم الذي يأتي على بال المخرج الأسباني فيكتور إيريس/ Victor Erice لاستدعائه كأول فيلم شاهده في السينما.
مستعيدا زيارته الأولى لإحدى دور السينما في سان سيباستيان حين كان يبلغ الخامسة من عمره، يستخدم إيريس كليبات مصوّرة وأخبار مؤرشفة ولقطات رقمية ليخلق تأملا رثائيا عن الخيال والواقع، التاريخ والذاكرة، الحياة والموت. بنبرة رقيقة ولكن مكثفة يقدّم نصف ساعة من المراسلة السينمائية الجليلة في تقصّيه لقوة السينما، ومعاناة أمة، ومسار الزمن المستمر والغير رؤوف بالمرة.

 فيما يمكن تسميته قصيد أو مقال بصري؛ يستكشف إيريس ذكرياته مع الفيلم والتاريخ المحيط به. يبدأ مع صالة السينما: بناية ضخمة بمسرح كبير كانت في السابق كازينو، حتى تمّ حظر القمار. يتحدث عن حالة "الأمة" الاسبانية: بلد لا يزال يتعافي من مصيبتي الحرب الأهلية والحرب العالمية الثانية، وكيف أن أهوال الواقع خدّرت الجمهور عن ويلات الشاشة. الأهم من ذلك كلّه يتحدث عن "بوتس": رجل البريد القاتل في الفيلم (يلعب دوره جيرالد هامر/ Gerald Hamer). لفترة طويلة بعد مشاهدته للفيلم، عاش فيكتور الشاب في خوف من سعاة البريد، خوف ساهمت تهكّمات أخته الكبرى المؤذية في تضخيمه. ولع إيريس بالشخصيات المتوحشة يعيدنا إلي "خلية النحل The Spirit of the Beehive " حيث يطارد فرانكشتاين الصغيرة والساحرة آنا تورنت/ Ana Torrent.
عمل رائع ينسج الذكريات والتاريخ وملاحظات شخصية ثاقبة عن قوة السينما والخبرة الجماعية، وحوش الطفولة، الصدمات والخيالات، بالاضافة لاحتشاده بصور ثابتة ولوحات بصرية بليغة بالأبيض والأسود مع موسيقى محبّبة من أرفو بارت/ Arvo Pärt. كل ذلك يجعلنا نتمنى لو أن فكتور إيريس صنع أفلاما أكثر.


2‏/4‏/2015

ساندويتش كياروستامي




لقطات طويلة وعالية للمناظر الطبيعية الإيرانية بينما تجتاز لانج روفر بديع التلال في دروب ملتوية. السماء (حتى المشهد الأخير) نادراً ما تُرى. يبقى بديع بالخارج دائماً يرفض دخول الاماكن المغلقة (متحف المحنّط أو وحدة الجندي). مظاهر الحضارة والتكنولوجيا يتم اختزالها في في آلات عملاقة تبدو  وكأنها صمّمت خصيصاً لنقل القمامة والحجارة من مكان لآخر

السيد بديع (اضطلع بالدور همايون أرشادي، مهندس معماري صديق لكياروستامي)، رجل في منتصف عمره يمضي الكثير من وقت الفيلم في القيادة خلال التلال المحيطة بطهران باحثاً عن من يساعده على الانتحار. خطته أن يأخذ جرعة زائدة من الحبوب المنوّمة ثم يبقى بعد ذلك في حفرة صنعها لنفسه ولكنه بحاجة لشخص يأتي إلى مكان الحفرة في الصباح التالي ليواري جسده التراب (إذا نجحت الخطة) أو  إخراجه من الحفرة (إذا فشلت).
يمكن تقسيم الفيلم إلى ثلاثة اجزاء؛ في كل منها يشرح السيد بديع الخطة إلى شريك محتمل: الأول جندي كردي شاب يعترض على الخطة ويتعجّب من تفكيره وبفعل الخوف يترك السيارة جرياً. الثاني طالب دين أفغاني في ثلاثينيات عمره يعترض على الخطة لأسباب دينية والثالث محنّط عجوز في متحف التاريخ الطبيعي يوافق على المساعدة بسبب حاجته إلى المال لعلاج طفله المريض. ينتهي الفيلم دون الكشف عن مصير السيد بديع وبدلاً من ذلك نراه مستلقياً في قبره المحتمل حتى يقطع كياروستامي على لقطة فيديو لمخرج (كياروستامي نفسه) وطاقمه يسجلون أصوات قوات عسكرية مترّجلة.
أعتقد أن "طعم الكرز" يمكن الحاقة بسهولة بالواقعية الجديدة Neo-Realism لدى سيكا وروسليني وراي وجميعهم مثل كياروستامي يوظفون ممثلين غير محترفين (مؤديين)، يصوّرون خارج الاستديو غالباً ويركزون كاميراتهم على حياة "حقيقية" مبعدين السنتمنتالية الذاتية لصالح الموضوعية (استخدام الصوت بصفة خاصة). هنا يضيف كياروستامي لمسة مابعد حداثية لفيلمه وكأنه يقول "هذا مجرد فيلم". البعض انتقد الحركة ولكني أتفق مع روزنباوم.
يعيد كياروستامي تمثيل الحياة بكامل تعقيدها الغني ويعيد تشكيل عناصر من الـ"تسعين دقيقة تصوير" السابقة لتوضيح ما هو حقيقي وماهو ملفّق/متخيّل/مُعد. أبعد من التأكيد على أن "طعم الكرز" هو "فقط"  فيلم فإن هذه النهاية الرائعة -في نظري- تقول من ضمن ما تقوله: إنه "أيضاً" فيلم.

في حوار تضمّنه اصدار كريتريون للفيلم؛ يقول كياروستامي أنه يحبّ الأفلام التي قد تسبب نعاساً للمشاهدين ولكنها تطاردهم حين يعودون إلى منازلهم. ضحكت كثيراً حين سمعت ذلك بسبب تجربتي الشخصية مع "طعم الكرز". لقد صارعت في الصباح التالي لمشاهدتي الفيلم مع ذلك المحنّط العجوز: فإذا كان كياروستامي يقول من خلاله أن الحياة تستحق أن تُعاش بسبب من اللذّة الحسّية (طعم الكرز) أو بسبب العلاقات الانسانية (أسرته وعائلته) إذا الفيلم doesn't realy work for me. ولكن سماع قصة المحنّط "المُرتّبة" بين محادثة اللاهوتي وخاتمة الفيلم؛ جعلتها أكثر إثارة للاهتمام ومثيرة للاعجاب أيضاً. إنه ذلك الحوار بين الإيمان والانسانية و(ربما) الجماليات aesthetics هو ما يتحدث إلى شخصياً.

14‏/3‏/2015

مونوكروم الألفية الجديدة (1): خمسة أفلام أمريكية حديثة بالأبيض والأسود



رغم كل ما شهدته صناعة السينما من تكنولوجيا متطورة لا تزال سينما الأبيض والأسود لا تزال قادرة على الحضور. في العام 2012 ذهبت جائزة أوسكار أفضل فيلم إلى "The Artist" المصوّر بالأبيض والأسود، في نفس العام ظهرت خمسة أفلام فنية arthouse بالأبيض والأسود: "The Day He Arrives" للكوري الجنوبي هونج سانج سو، "Keyhole" للكندي جاي مادين، "The Turin Horse" للمجري بيلا تار، "Tabu" للبرتغالي ميجيل جوميز، "The Color Wheel" للأمريكي أليكس روس بيري. الثلاث الأفلام الأخيرة هي فقط التي صوّرت في الأصل على فيلم خام أبيض وأسود. في العام 2013 ظهرت خمسة أفلام أخري مصوّرة بالأبيض والأسود: Frances Ha"" لنواه بامباخ، Nebraska"" لألكسندر باين ،  "Computer Chess" لأندريه بوجلاسكي ، "Much Ado About Nothing" لجوس ويدون، "Jealousy " لفيليب جاريل. الأفلام الأربعة الأولى لمخرجين أمريكيين وأيضاً لم يتم تصويرها على فيلم خام أبيض وأسود. في العام الماضي دخل مخرجون جدد على خط التجربة فظهر "Ida" للبولندي بافل بافليكوفسكي و"ديكور" للمصري أحمد عبد الله.

في أغلب تلك التجارب لا يكون التصوير بالأساس بالأبيض والأسود بل يتم التصوير بالألوان عادة ثم تجري عملية المعالجة للتحويل إلى الأبيض والأسود؛ فما الذي يغري صانعي الأفلام بالعودة إلى اللونين الكلاسيكيين؟ بالتأكيد لكل أسبابه الخاصة: الحنين ربما، أو لمناسبة السياق التاريخي لموضوع الفيلم كما هي الحال في  Tabu أو The Artist، أو رؤية فنية خاصة كما يبرز في ذلك الإتجاه بيلا تار وجاي مادين اللذان اختارا تصوير كلّ أفلامهما بالأبيض والأسود. ولكن هناك من تجذبه امكانيات الوسيط للتمويه بين "الأبيض والأسود" كمرجعية فنية واستخدامه من أجل خصائصه البنوية: قدرته على خلق صورة شبه واقعية أقرب لأحلام اليقظة تتصاعد فيها الظلال، التركيبات، التخططيات كما في "Computer Chess"  و "The Color Wheel". المُشاهِد من جانبه ربما يؤخذ بطريقة الحكي بالأبيض والأسود عن عالم حديث، أو يرى أن الأبيض والأسود يعلي من التأثير الدرامي لفيلم ما. وربما يمتعض البعض من ذلك الاختيار مؤكدين على أنها دليل قِدَم لا إبداع، وتصدّر إحساساً بالفقر الفني!

على العموم سنصحبكم في إطلالة، تحاول أن تكون وافية، على انتاج السينما العالمية من "أفلام الأبيض والأسود" في الألفية الجديدة من خلال عدة مقالات سيكون أولها خاصاً بالسينما الأمريكية وبالأخص السينما الأمريكية المستقلة واستعراض خمسة أفلام اختارت الأبيض والأسود كي تظهر على مشاهديها.



(Computer Chess (2013



قبل أي شيء: مخرج هذا الفيلم هو واحد من المخرجين الكبار الذين لم ينالوا التقدير والاهتمام اللازم من النقاد والمتابعين. أندريه بوجلاسكيAndrew Bujalski هو في طليعة مجددي فن السينما في عصرنا الحالي ولا يسعني سوي حث كل من يريد تجربة سينمائية مغايرة ومحترمة على مشاهدة أفلامه.

الفيلم يبدو مفارقاً لكل الانجاز السينمائي الأمريكي المستقل في السنوات العشرين الأخيرة. في فيلمه الرابع حقق أندريه بوجلاسكي Andrew Bujalski الشيء الكبير، فالفيلم يشكل الخروج الزمني الأول له، وبعد العمل مع فيلم 16 مللي في Mutual Appreciation، تحوّل هنا إلى "أبيض وأسود" عفا عليه الزمن باستخدامه لكاميرا من انتاج السبعينات لا تصوّر سوي بالأبيض والأسود. من على السطح، يبدو الفيلم كتوثيق فضفاض لأحد المؤتمرات التكنولوجية المنعقدة في الاجازة الأسبوعية بحضور عدد من المبرمجين وأوائل المتخصصين في الذكاء الاصطناعي، خصوصاً اولئك الذين يعملون على تطوير برامج شطرنج مستقلة. تدور أحداث الفيلم في بداية الثمانينيات حين كان دور الكمبيوتر في الحياة اليومية مجرد فكرة تبدو واقعية ولكن غير محددة. الثقافة المرتبطة بالاختراع الجديد لم تكون بذلك الشيوع الذي نشهده في أيامنا هذا، بل انحصرت نقاشاتها في دوائر مهووسي التكنولوجيا وأساتذة جامعيين محتملين ورجال أعمال المشاريع المستقبلية ونماذج أخرى غريبة لا يزدهر انتاجها سوى في بيئات مسيطر عليها بعناية. تجتمع تلك التشكيلة من الشخصيات في أحد الفنادق الغريبة صحبة لوحات التحكم الخاصة بهم بينما يقوم سيد الشطرنج البشري بات هندرسون (قام بدوره الناقد الفني جيرالد بيري Gerald Peary) بمراسم استقبال تشريفية.


لا يذهب بوجلاسكي لتلك الفترة الزمنية لعرض سذاجتها أو التمرمغ في الحنين. عوضاً عن ذلك، ينظر الفيلم إلى المشهد التقني قبل أن يصبح جاذباً لأصحاب المليارات. لن نجد استقصاء للماضي بأسباب الحاضر ووسائله backshadowing ولكن اعادة النظر في احتمالات مجهولة وفي هذا الصدد يبدو واضحاً شعور بوجلاسكي بالقرابة من هؤلاء المبرمجين. استخدامه لصورة الفيديو التناظرية القديمة analog يمنحه الفرصة لعرض امكانياتها الجمالية. وبالمثل فبنية الفيلم مع اهتمام المخرج المشتت بين الشخصيات المتناثرة، والاحساس الدائري بالزمن تتلاقي مع الاحساس بشبكية الحبكة بدلاً من خطّيتها وهي التقنية التي يعارض بها بوجلاسكي أسلوب السينمائيين الواقعيين. في جوهر بنيته الدائرية تلك، فان الفيلم يرفض الأحكام اليقينية بشأن الماضي أو استشراف المستقبل، وبوجلاسكي في ذلك يبدو كصانع سينمائي بعقلية فارس قديم يتحسس طريقه في الظلام.






(The Color Wheel (2011




JR، (الشخصية التي تقوم بدورها كارلين ألتمان Carlen Altman)، مذيعة طموحة في العشرينيات من عمرها ولكن بدون موهبة. يوماً ما تطلب من شقيقها العصبي كولين (يقوم بدوره مخرج الفيلم أليكس روس بيري Alex Ross Perry) المساعدة في نقل اغراضها من شقة صديقها السابق، والذي نعرف أنه أستاذها السابق. يعتقد كولين أن JR بائسة ولا تبعث على المتعة ولكنه لا يعترف بأنه على نفس القدر من السوء، وهو العالق في علاقة امتدت لثلاث سنوات مع امرأة تعلن عن كراهيتها له وترفض النوم معه.

على مضض، يصعد كولين إلى سيارة شقيقته ويبدأن رحلة من ضواحي بنسلفانيا إلى بوسطن. وكعادة تلك الأفلام: محطة الوصول ليست مهمة بقدر الأحداث التي ستقع خلال الرحلة نفسها؛ وهذا هو الشيء التقليدي الوحيد في هذا الفيلم.

ينهل الفيلم من عدمية فيليب روث وسخرية جيري لويس المتأخرة، في حكايته عن زوجين شنيعين، أخ وأخت لا يقدمان أي اعتذار عن سلوكهما ويبدوان كما لو كانا على استعداد للاساءة لكل من يقابلهما، ولكن يظلا مثيرين للفضول بطريقة غريبة. مزاحهما المعتمد على سرعة البديهة والاخلاص لعملية إذلال مشترك، يعطي الانطباع بارتجال تمثيلي ولكن في الحقيقة كل ذلك مكتوب باتقان محكم من مؤلفي الفيلم( وهما أيضاً من قاما بالدورين الرئيسيين). فقط عندما يبدو وكأن هاتين الشخصيتين قد أسقطا كل ما يثقل كاهلهما وسمحا لنفسيهما بتصرف يبرز حقيقتهما فانهما يفعلا شيئاً سيجده أغلب المشاهدين مؤسفاً وربما مقززاً.

عوضاً عن حرق الفيلم وحكي تفاصيله، يمكن الاشارة إلى درّة الفيلم: لقطة طويلة تستمر فتنتها طيلة عشر دقائق، يجلس فيها كولين و JR على أريكة ويتحدثان عن لا شيء تقريباً. ولكن بينما تشاهد ذلك، وبينما الكاميرا تتحرك بثبات هاديء، تدرك قيمة تلك الدقائق: إنها أول محادثة صافية نشاهدها في الفيلم وربما في حياتهما أيضاً.


كاميرا شون بريس ويليام  Sean Price William تتنوع حركتها بين الصورة المهتزة والزوم المُركّب واللقطات المتحركة dolly-shot ولكن لا شيء متسرع في هذا الفيلم المكاني بامتياز. أسلوبه الجامح وانعطافاته النغمية ترمينا في قلب رؤيته القاتمة- والمتعاطفة في جوهرها- للحياة والتوق البشري. بجمعه بين الكوميديا والدراما وفكاهة تتراوح بين الهزلية والساخرة والبغيضة، ولعبة حوارية تبدو فيها الكلمات ككرات مطاطية ترتد بين جدران متقابلة؛ The Color Wheel بالتأكيد لا يصلح للجميع ولكن جرأته لا يمكن انكارها. فيلم أليكس روس بيري ذو الميزانية المتقشفة، والذي تم تصويره على فيلم 16 مللي، هو واحد من أقوى وأجرأ الأفلام الأمريكية المستقلة في العقد الأخير: بتحديه لما تم تكريسه من أسلوب وذوق عن الفيلم المستقل وتقديمه إجابة جديدة لسؤال ما الذي يمكن لفيلم مستقل أن يقدمه؟.









(Frances Ha (2012




نواه بامباخ Noah Baumbach، الفتى المدلل للمشهد الأمريكي السينمائي المستقل (أخرج أيضاً The Squid and the Whale و Margot at the Wedding  وكتب للمدلل الآخر ويس أندرسون Wes Anderson فيلمي The Life Aquatic with Steve Zissou و The Fantastic Mr Fox) يتعاون مع ديفا السينما الأمريكية المستقلة جريتا جيرفيج Greta Gerwig (حبيبة المخرج، والتي عملت منذ 2006 في مجموعة كبيرة من الأفلام الصغيرة التي لن تراها أبداً) ليقدما فيلماً من تلك الأفلام التى تترك شعوراً جيداً لدى مشاهدها.

تلعب جرفيج دور فرانسيس، راقصة أو كوريوجرافر محتملة، امرأة شابة تحاول ايجاد المشتبه بهم المعتادين (الحب، الاستقرار المهني، الرضا الابداعي) في نيويورك، المدينة نفسها التي تسكنها فتيات لينا دنهام Lena Dunham. فرانسيس طرف في واحدة من تلك الصداقات الطويلة مع صوفي (ميكي سامنر Mickey Sumner)، والتي تعمل في دار النشر راندوم هاوس Random House. " نحن مثل ثنائي مثلي ولكن لم يعودا يمارسا الجنس". مثل كثير من شخصيات الفيلم، تتحدث الصديقتان بأريحية عن حياتهما الجنسية، والتي تبدو عارضة وغير مقنعة لكلتيهما. يتخيلان مستقبلهما: سيكون هناك "عشاق بدون أطفال" وشهادات فخرية، وبالطبع لا مزيد من المآزق الحياتية.

بشكل ما الفيلم عن مفترقات الطرق التي تضعها الحياة أمامها، وسؤال "ما الذي يمكن أن يحدث بعد ذلك؟". عن تجربة الخروج من العشرينيات الخالية من المسئولية والدخول في ثلاثينيات العمر المنذرة بالكثير. بطريقة دائرية، ورغم اهتمام السيدتين الصغيرتين بالرجال حول المدينة، هناك اهتمام بكيف تصبح الصديقة صديقة girlfriend. فرانسيس وصوفي يلتقطان تلك المشاعر من الحب والاثارة والتقارب الخانق والشائك التي تأتي من الوجود في تلك المنطقة من العلاقات الانسانية.


في حوار مع بيتر بوجدانوفيتش Peter Bogdanovich تحدث المخرج عن فوتوغرافيا الفيلم وصعوبة تصوير فيلم بالأبيض والأسود بكاميرا ديجيتال حيث ذكر شيئاً عن أضواء النيون في باريس والتي كانت مبتذلة في النسخة الملونة، ولكن حين حوّل الفيلم إلى الأبيض والأسود ظهرت بصورة مدهشة. بامباخ الذي صوّر فيلمه في نيويورك وسان فرانسيسكو وباريس بدا واضحاً حضور الموجة الفرنسية الجديدة Nouvelle Vague في ذهنه (في أحد المشاهد نلمح على جدران أحد مساكن فرانسيس المؤقتة بوستر L'argent de poche (1976) لفرانسوا تروفو). ولكن ذلك التأثر مقصود وموضوعي وله أسبابه الوجيهة التي تتقاطع مع أعمال مخرجي الموجة الفرنسية: الايقاع (الحركات اللاهثة والوعي الذاتي للشخصيات) والسرد (اندفاع الشباب في البيئات الحضرية) والخشونة التقنية (الكاميرا المستخدمة في تصوير الفيلم تعادل في زمنها الكاميرات التي استخدمها "جودار" و"تروفو" في بدايتهما)، حتى أننا نجد أصداءً لإريك رومير Eric Rohmer  (بالتحديد في اهتمام الفيلم بفكرة الواقع المستقر لشخصيته الرئيسية والذي يتم اختباره بواقع آخر مختلف، وفي النهاية تتم العودة للواقع الأول). مثل تلك الاستيحاءات موجودة على الدوام في أعمال بامباخ ولكنها هنا تتصدّر الواجهة في تحية منعشة للرواد، حملت جرفيج عبئها الأساسي بخفتها وأدائها المتقن، لا ارتجال زائد ولا افراط في التمثيل. هي التي ربما لا تتحصّل على المواصفات الشكلية لنجمات هوليوود المكرّسين، ولكن هناك شيئاً مميزاً بخصوصها: تبدو وكأنها ممثلة أنيقة خارجة من الأربعينيات، الأمر الذي يجعل ذلك الفيلم في بعض الأحيان ساحراً.









(Coffee and Cigarettes (2003




من كان يتخيل أن فيلماً أمريكياً محدود الميزانية يجمّع سلسلة من المحادثات العابرة صحبة فنجان قهوة (أحياناً شاي) وسجائر سيكون واحداً من أفضل الأفلام الكوميدية في مطلع الألفية. جيم جارموش Jim Jarmusch الذي أخرج من قبل ثلاثة أفلام بالأبيض والأسود، استمر طيلة 17 عاما في التقاط أفلاما قصيرة لشخصيات تجمعهم الظروف لاجراء محادثة عابرة و عشوائية(؟) والنتيجة كانت انحرافاً بليغاً للسرد التقليدي. لا، ليس كل مقطع من "قهوة وسجائر" قطعة فنية بديعة ولكن أغلب من نجحت فيهم التوليفة الجارموشية كانت نتيجتها مبهرة.

بعد المقطعين الأولين وأجواء الاسترخاء والنتائج التي لا علاقة لها بالمقدمات، تبدأ خطوط العمل في الاعلان عن نفسها: الإزدواجية، الشهرة، الابدال. وكلما امتد الفيلم فانه يراكم تيماته جنباً إلى جنب مع ابتكاراته البنائية؛ ما يطرح السؤال: كم عدد الأفلام التي يمكن لجارموش أن يصوّرها ويقطّعها لأناس يشربون القهوة في المقاهي والمطاعم؟. إنه حقاً شيء رائع حين تكتشف الكم الهائل من الأفلام التي يمكن أن تخرج من فعل اعتيادي ويومي كهذا

طوال الأنطولوجية الفيلمية، المكونة من احدى عشر مقطعاً، نتابع شخصيات تربطهم صلة ما (رابطة دم، أشياء مشابهة يقومون بها، مصالح مشتركة) ثم يصحبون أضداداً بدون سبب واضح سوى بعض التعسف، والرغبة في العناد والمشاكسة، أو الرغبة في تمييز أنفسهم عن الآخرين. في كل ثنائي نجد أحدهما لطيف وحريص على رضا شريك الطاولة، والآخر متغطرس ويميل للقتال. كثير من متعة الفيلم يكمن في دراسته الحسّية للعالم على نحو تجريدي. في أغلب المقاطع، يقوم جارموش بالقطع على لقطات علوية للطاولة حيث تجلس شخصياته مبرزاً مفرش الطاولة، الشطرنجي الهيئة، في ربط لطيف بين عنوان الفيلم وطريقة تصويره.

كل الشخصيات تركوا حياتهم العادية: توأم في إجازة، ممثلين انجليزيين يلتقيان في لوس أنجلوس حيث الشهرة التي لم يعتادا عليها، نجم مشهور كبيل موراي Bill Murray يعمل كنادل في حانة. رقعة الشطرنج تعمل كفضاء تجريدي مستئصل من الحياة اليومية والعادية التي تحاول القهوة والسجائر أن تعيدنا إليها، حتى حين نتابع شخصيات الفيلم في مناقشة مواضيع تافهة فإن انطباعاً ما يؤكد على الحميمية والانسجام الناتج من اللقاء بين القهوة والسجائر.







(The Man Who Wasn't There (2001


ايد كران (بيلي بوب ثورنتون Billy Bob Thornton في دور حياته) حلّاق، مُدخّن يقوم بعمله بهدوء في سانتا روزا بكاليفورنيا، لا يحادث زبائنه أو في الواقع لا يتحدث مع أي شخص. يعلم بأن زوجته (مشاركة معتادة من فرانسيس مكدورماند Frances McDormand) على علاقة بداف الكبير Big Dave (جيمس جاندولفيني James Gandolfini في دور صغير ولكن رائع)، ويتقبل هذا الوضع. عن طريق الصدفة يقع على فرصة استثمار ويبتزّ عشيق زوجته للحصول على المال اللازم. الباقي معروف: هناك رجل يُقتل وزوجة تدخل السجن.

يسعى الأخوان إيثان وجويل كوينEthan&Joel Coen  لجعل فيلمهما النيو نوار neo-noir فلسفياً بالكثير من الظل الوجودي واستعارة الفلاسفة الألمان، ولكن هناك شيئاً لا يزال مفقوداً: إيد الذي لا يحدث أي تطور درامي في شخصيته حتى نهاية الفيلم، يظل على حالته من الهدوء والصبر وخداع الذات. في الأثناء، يقدّم الأخوان حبكة اضافية بظهور بيردي أبونداس (سكارليت يوهانسون Scarlett Johansson) معجزة البيانو، أو هكذا يعتقد إيد. يأخذها إلى معلم بيانو رفيع والذي يخبره بأنها "تلعب البيانو مثل فتاة لطيفة جداً" ولكن بدون أية عاطفة موسيقية (وهو الأمر الذي سيلاحظه أي مشاهد متذوق من قبل أن تخبره إحدى شخصيات الفيلم). لكن رغم ذلك تبقى نقاط تحسب للفيلم:الأداء المبهر لبيلي ثورنتون وجيمس جاندولفيني، السيناريو الذكي رغم بعض الملل. هو فيلم مثير للاهتمام بتعاليه على الحبكة التقليدية لأفلام النوار ولكن بدون انتعاش.

حتى في أسوأ حالاتهم، لا يكون الكوينز مملين على الاطلاق. فوتوغرافيا روجر ديكنز Roger Deakins الرائعة تبدو نافرة بعض الشيء مع رتابة الايقاع. وربما تكون رؤية سكارلوت يوهانسون المراهقة سبباً كافياً لمشاهدة هذا الفيلم.